الاعلامية سفانه الديب تكتب: ترامب … وعصر انعدام اليقين

عندما أعلن دونالد ترامب ترشحه للرئاسة ، لم يكن يقدّم مجرد وعدٍ بالحفاظ على المصالح الأمريكية فحسب ، بل كان يعدُ بعصر جديد من الحروب التجارية التي ستُعيد تشكيل العالم . “أمريكا أولًا” كان شعاره ، ولكن ما لم يكن يعلمه العالم أنّ هذا الشعار سيتجاوز كونه مجرد خطاب انتخابي ليصبح شعارًا لحرب عالمية اقتصادية تقلب المفاهيم القديمة رأسًا على عقب .
فعند وصوله إلى البيت الأبيض ، لم يكن ترامب يرى التّجارة كما يراها الآخرون ، بل كانت معركة استراتيجية حيث لا مكان للتسويات ولا للحلول الوسط . كان عازمًا على استعادة السيطرة الاقتصادية لأمريكا، حتى ولو على حساب إشعال الأزمات الاقتصادية على مستوى العالم .
بدأ ترامب في استخدام الرسوم الجمركية كأداة حرب ، كان يراها سلاحًا يمكن فرضه على الدول الكبرى مثل الصين، الاتحاد الأوروبي، وكندا،وغيرها ، وهو الأسلوب الذي أثار صدمة في الأسواق العالمية. لم تكن مجرد زيادات في الرسوم الجمركية، بل كانت بمثابة إعلان لمرحلة جديدة: اقتصاد أمريكي محصن ، يعتمد على فرض إرادته الاقتصادية على بقية العالم ولكن هل جاءت الرياح كما تشتهي سفن ترامب ؟ أم أثارت الرسوم تفاعلاً غير متوقع؟
لا شيء في الحرب التجارية جاء كما هو متوقع ، فبينما كان ترامب يروج لأفكار عن “الازدهار الأمريكي” في حال تطبيق هذه السياسات ، بدأت تظهر النتائج المدمرة. لم تكن الولايات المتحدة هي الفائز الوحيد في هذه اللعبة، بل كانت هي أيضًا الأكثر تعرضًا للضرر. الصناعات الأمريكية التي تعتمد على الواردات في تصنيع منتجاتها، بدأ تأثير الرسوم الجمركية يطحنها، مما رفع التكاليف وأدى إلى ارتفاع الأسعار في الأسواق الداخلي .
وبينما كان العالم يشهد تغييرات في السياسات التجارية من خلال فرض الرسوم المضادة، كانت الأسواق تتعرض للضغوطات من كافة الجهات. لم يكن هذا صراعًا تجاريًا تقليديًا، بل كانت حربًا من نوع جديد، تشق طريقها من خلال عدم اليقين الاقتصادي، حيث لا يقين في الاتجاهات المستقبلية ولا مكان للخطط المضمونة .
ما بدأ كحرب اقتصادية بين أمريكا والصين سرعان ما تحول إلى معركة أكثر تعقيدًا. لم يكن ترامب فقط يحارب الصين، بل كان يخوض حربًا ضد النظام التجاري العالمي نفسه. كانت خطواته في معركة الرسوم الجمركية تهدد الأسس التي قامت عليها علاقات التجارة الدولية لعقود من الزمن .
الصراع لم يكن بين دولتين فقط؛ بل أصبح تصعيدًا للعلاقات بين القوى الكبرى في العالم. الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، أخذ يخطط بعناية لمواجهة الرسوم الأمريكية على منتجاته، في حين كانت الصين تُسرع من خطواتها لإيجاد أسواق بديلة بعيدة عن الهيمنة الأمريكية. بذلك، تحولت الحروب التجارية إلى لعبة توازن عالمي، حيث لا يكون فيها طرف رابح وآخر خاسر، بل الجميع في حالة من التغيير المستمر والضبابية والتقلبات
في هذا السياق، تحولت الأسواق العالمية إلى ساحة مفتوحة للشكوك، حيث لا يوجد يقين اقتصادي ، كانت الشركات الكبرى والاقتصاديون يحاولون فهم حركة الأسواق القادمة، ولا أحد كان قادرًا على تقديم إجابة واضحة. ترامب الذي كان يروج لفكرة الحماية التجارية كوسيلة لإعادة عظمة أمريكا، لم يدرك أن الحرب التجارية قد تقوّض في النهاية الاستقرار الاقتصادي، سواء على المدى القريب أو البعيد .
الأسواق التي كانت تعيش على أساس من التنبؤات المستقرة والاتفاقيات الدولية أصبحت الآن تدور في فلك من الاضطرابات، الشركات التي تعمل في بيئة متشابكة من الشراكات والتبادلات التجارية عبر الحدود أصبحت في مواجهة مع واقع جديد من الانعزالية والارتفاعات الحادة في الأسعار، والفوضى التي اندلعت خلف الأبواب المغلقة لسياسات ترامب أظهرت أن الاقتصاد الأمريكي نفسه لم يكن محصنًا من تداعيات هذه الحروب .
ولكن ما هو أثر الحروب التجارية على النظام العالمي ؟
الحقيقة التي كان يغفلها ترامب هي أن النظام التجاري العالمي ليس مجرد لعبة مصلحة ضيقة. إنه شبكة مترابطة من التفاهمات والعلاقات بين الدول التي تسعى لتحقيق الاستقرار والنمو المتبادل. عندما بدأ في تقويض هذا النظام بفرض الرسوم الجمركية، كان يشعل حربًا لا يمكن لأحد أن يتنبأ بنتائجها.
لقد حول ترامب التجارة إلى ساحة معركة عالمية غير مألوفة، حيث أصبحت الاستراتيجيات الاقتصادية تحت تأثير هجوم سياسي غير مسبوق ، وهنا أصبح السؤال الأكبر هو: هل هذه الحروب التجارية مجرد مرحلة مؤقتة، أم أن العالم دخل مرحلة جديدة من الفوضى الاقتصادية، حيث لا مكان للاستقرار ولا للثبات؟