سفانة الديب تكتب: الإعلام وإدارة الصّراعات السّياسيّة

من يصنعُ من ؟ من يسيطرُ على الآخر ويقوده ؟ هل مالك المعلومة يسيطرُ على المشهد أم أن صاحبَ المال هو من يوجهُ ويرسمُ السّياسات ؟
الإعلام والسياسة ..علاقةٌ إشكاليةٌ ومثيرةٌ للجدل ، ليست وليدةَ اليوم ، بل بدأت منذ عقود طويلة ، حيث ساهمت التّطوراتُ الحاصلةُ في المجتمعات المعاصرة بفعل العولمة وما أدَّت إليهِ من تشابكٍ بين جوانب الحياة ، وفي ظلِّ ما يشهدهُ العالمُ من تغّيراتٍ كبيرة خاصة على المستوى السياسي ، يتّضحُ جلياً أنَّ للإعلام تأثيٌر بالغُ الأهميةِ في مجرى الأحداث ، وبفضل التّطور الاتّصالي المُتسارع ، وما أنتجته الثّورةُ التكنولوجيةُ من وسائلَ ووسائطَ ذكية ومتعددة ، أصبحت العلاقةُ بين الإعلام والسياسة تلازميّة ًوتنافسّيةً في الوقتِ ذاته ، وهو ما جعلَ وسائلَ الإعلام في عصرنا الحالي قادرةٌ على الفعلِ بشكلٍ مباشرٍأو يرِ مباشرٍ في المشهد السياسي ، وخير دليل على ذلك تأثيرُ وسائل الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية ،
فقد اهتمَّ الأمريكيون منذ تأسيس الدولة الفيدرالية بدور وسائل الإعلام في توجيهِ الحياةِ السّياسية ، حيث شكّلت الصّحافةُ عشيةَ وضع الدّستورِ الفيدرالي ، مِنبراً رئيسيًّا للحوارِ والجدلِ السياسي وتنوير الرأي العام بالأفكار، وهوما طرحَ تساؤلاتٍ حولَ النُّفوذِ الفعليّ لوسائلِ الإعلامِ الأميركية ، ومدى التّأثيرِعلى الرأي العام .
تاريخيّاً ، ساهمت التغطيةُ الإعلاميّةُ في الولايات المتّحدة بإسقاط رؤساء مثل ريتشارد نيكسون ، وسلَّطت الضَّوءَ على فضائحَ وممارساتٍ لآخرين وصلت ذروتها في عهد ترامب خلال ولايته الأولى عام 2016م ، والتي ترافقت مع التّحوُّلِ من الإعلامِ التقليدي إلى الإعلام الجديد بشكل كبير .
وفي عام 2020م ، أسهم ترامب في رفع نسب المشاهدة بشكل كبير لدى قنوات «سي إن إن» و«فوكس نيوز» ، ونتج عن أسلوبه السياسي ، الخارج عن المألوف ، زيادة في معدّلات المشاهدة .
ورأينا هذا النمط مجدداً عام 2024م ، حيث جذبت المناظراتُ والتّغطياتُ الانتخابية جمهوراً ضخماً ، مع تحقيق مناظرة «سي إن إن» الرئاسية بين ترامب والرئيس جو بايدن 50 مليون مشاهدة والتي عُرضت عبر عدّة شبكات .
وهنا برزَ الضِّلعُ الثّالثُ من مثلّثِ الإعلامِ والسّياسة ، فإلى جانب المعلومة والمال ، ظهر بوضوحٍ وزنُ الانتماءاتِ السّياسة لوسائل الإعلام الأمريكية
فرأينا محطّاتٍ تلفزيونيةٍ تحمِلُ رايةَ الجمهوريّين ، وأخرى تحشدُ للديمقراطيّين ، ماعكسَ حجمَ الصّراعِ والتّنافسِ السّياسي ، ووضع الاستقلاليّةَ والحيادَ والمِهنيّةَ الإعلاميّةَ على المحك .
هذا بالإضافة إلى أنَّ استحواذ الملياردير الأميركي إيلون ماسك على منصّة «إكس» ، والذي ساهم في تعزيز المحتوى السياسي ، خاصّة الآراء اليمينية أدّى إلى مزيدٍ من الانقسام ، غذّاهُ وزادَ من حدَّته ، بروزُ المنصّات الإعلاميّة الجديدة كقُوّةٍ مُؤثرةٍ ومُوجِّهة ، هذا وجسّدت الحملةُ الانتخابيةُ للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب هذا التحوّل من خلال استراتيجيته الإعلامية ، والتي اعتمدت بشكلٍ متزايدٍ على وسائل التّواصل الاجتماعي والبودكاست للتواصل مع الناخبين ، وذلك وفقاً لتقريرٍ نشرتهُ صحيفة (وول ستريت جورنال) ، حيث شارك ترامب في سلسلة لقاءات في بودكاست ، كان أبرزها مقابلة على بودكاست “جو روغان” ، والتي استمرّت لثلاث ساعات متواصلة ، مُحققةً ملايين المشاهدات .
فلا شيء يُضاهي القيمةَ التّقنية والانتشارَ الكبير والتنوعَ المعرفي الذي تسببت به الثورة الإعلامية ، على كلّ الأصعدة الثقافيّة والّسياسّة والاقتصاديّة وغيرها ، ومساهمتها في تحرير المُتلقّي من هيمنة الإعلام الحكومي والحزبي أو المنتمي والمُسيّس ، والذي يرى البعضُ في المقابل ، أنَّ هذا الفضاء الكبير الذي قادتنا له وسائلُ الإعلام الجديد ، أحدثَ خروقاتٍ على مستوى نسيج القيم ، وأنتجَ حالةً من الاستلابِ الثقافي ، بالإضافة لتشتّت الأفكارِ وكثرتها وتفاوتها وعدمِ السيطرة على مسارها .
ليبقى الثابتُ الأكيد ، أنَّ الإعلام يشكّلُ حلقةَ الوصلِ بين صانع القرار والجمهور، وبالتالي يتأثّرُ ويُؤثّرُ في النّظام السّياسي والاقتصادي والاجتماعي ، ضمن علاقةٍ تنمو بشكلٍ مُتناغمٍ ومُتكاملٍ تارةً ، وتنافسي يصلُ للصّراعَ والّتنافُرِ تارةً أخرى .
إذاً هي علاقةٌ عضويّةٌ ومُؤكَّدة بين الإعلامِ و السّياسة ، فحيثُ توجدُ السّياسة يوجدُ الإعلام ، ولا إعلام بغير سياسة ..