دائمًا مصر قلعة تتحطم عليها أطماع الغزاة وأحلام الخونة

بقلم: د. ناصر السلاموني
مرّت الأمة العربية والإسلامية بمحطات تاريخية عصيبة، تكالبت عليها فيها قوى الغزو والاحتلال، وتعرضت لانقسامات داخلية وخيانات أضعفت بنيانها. ورغم تلك المحن، ظل الأمل مشعًا بفضل مواقف بطولية سطّرها قادة وشعوب، كان لمصر دائمًا فيها دور محوري ومصيري، جعلها بحق حصن الأمة ودرعها الواقي.
في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، انطلقت الحملات الصليبية من أوروبا بحجة “تحرير” بيت المقدس، فاجتاحت بلاد الشام وفلسطين، وأقامت إمارات على أنقاض مدن المسلمين. شهدت القدس مجازر مروعة، راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين، كما تكرر المشهد في عكا وأنطاكية ودمياط، بمساعدة بعض المتعاونين من الداخل. لكن التاريخ لن ينسى كيف انطلقت مقاومة صلاح الدين الأيوبي من مصر، حيث وحّد الصفوف، وقاد معركة حطين التي كانت فاتحة لتحرير القدس، واستعادة الكرامة الإسلامية.
وعندما حاول الصليبيون غزو مصر مجددًا بقيادة لويس التاسع، اصطدموا بجدار الصمود المصري في معركة المنصورة عام 1250م. قاوم الجيش المصري بقيادة الأمير فخر الدين يوسف، وتعاون أهل المدينة مع القادة، حتى تم أسر لويس التاسع في دار ابن لقمان، في مشهد يعكس بطولات المصريين وتلاحمهم في مواجهة الغزاة.
وفي القرن السابع الهجري، اجتاح التتار بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم وخرّبوا مكتبتها الشهيرة، بمساعدة بعض أمراء المسلمين آنذاك، مما زاد المأساة. ومع ذلك، جاء النصر من مصر من جديد، حين قاد سيف الدين قطز معركة عين جالوت عام 658هـ، وانتصر على التتار، ثم أكمل الظاهر بيبرس الطريق لتثبيت دعائم الدولة ومحاربة الخيانة الداخلية.
أما دخول العثمانيين إلى مصر عام 1517، فلم يكن فتحًا كما يُروج، بل كان غزوًا أطاح بسلطة المماليك. قاوم السلطان طومان باي ببسالة في موقعة الريدانية، لكن الخيانة من بعض الأمراء، مثل خاير بك، مكّنت العثمانيين من دخول القاهرة. أُسر طومان باي وأُعدم على باب زويلة، وبدأت حقبة من السلب الحضاري، حيث نُهبت مقتنيات مصر الثقافية والدينية، ونُقل الحرفيون إلى إسطنبول، ما أضعف البنية الثقافية والصناعية للبلاد. وعلى امتداد قرون، لم تتمكن الدولة العثمانية من الحفاظ على تماسك الأمة، حتى سقطت على يد مصطفى كمال أتاتورك، الذي أنهى الخلافة العثمانية وأسّس دولة علمانية حليفة للغرب، كرد فعل على رفض السلطان عبد الحميد الثاني بيع فلسطين.
وفي مطلع القرن العشرين، تعرّض الوطن العربي للتقسيم بموجب اتفاقيات استعمارية، أبرزها وعد بلفور عام 1917، الذي تعهّدت فيه بريطانيا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. ورغم مشاركة جيوش عربية عدة، إلا أن مصر كانت في طليعة المواجهة، وسجلت صفحات مشرقة في الدفاع عن فلسطين، فيما كان الدعم العربي الآخر محدودًا أو متأثرًا بظروف سياسية متباينة.
تكررت الانتكاسات، أبرزها نكبة 1948 ونكسة 1967، لكن مصر رفضت الاستسلام، فبدأت حرب الاستنزاف، وانطلقت في حرب العاشر من رمضان لتحقق نصرًا تاريخيًا أعاد التوازن إلى المنطقة. ثم جلست مصر على طاولة المفاوضات في كامب ديفيد، واستردت أرضها بالحكمة والسياسة، وفتحت الباب أمام حل سلمي شامل، لكن هذا القرار قوبل بتجميد عضويتها في جامعة الدول العربية، وسُجلت عليها اتهامات مجحفة رغم مواقفها الثابتة تجاه القضية الفلسطينية.
اليوم، ورغم ما تمر به المنطقة من صراعات وتغيرات، فإن مصر ما زالت تؤدي دورها بدعم الفلسطينيين سياسيًا وإنسانيًا، وتستضيف الجرحى، وترسل المعونات، وتقود الوساطات من منطلق قومي وإنساني، في وقت أصبحت فيه بعض الدول العربية منفتحة على التطبيع مع إسرائيل، وفقًا لحسابات سياسية معقدة، تختلف من دولة لأخرى.
ومن المؤسف أن الخلافات العربية الداخلية، والتطبيع المتسارع، والصراع الفلسطيني – الفلسطيني، كلها تُعيد مشاهد الماضي المؤلم. لكن التاريخ علّمنا أن مصر، رغم الضغوط والخيانة، كانت دائمًا الحصن الأمين للأمة، بشعبها وجيشها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“إنهم في رباط إلى يوم القيامة.”
إن العودة إلى الوحدة، ونبذ الفرقة، والتمسك بدين الله، هو الطريق الحقيقي للنهوض. ومهما اشتدت المحن، لن يقف عدو أمام إرادة المصريين، الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
“إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منها جندًا كثيفًا، فذلك الجند خير أجناد الأرض.”
تحيا مصر… ويحيا جيشها… ويحيا قائدها.