عقوق الآباء للأبناء مسؤولية غائبة

 

بقلم ناصر السلاموني

عندما نسمع كلمة “العقوق”، يتبادر إلى الأذهان فورًا عقوق الأبناء لآبائهم، لكن هناك وجهًا آخر لهذه القضية لا يقل خطورة، وهو عقوق الآباء للأبناء. فالأبناء يولدون صفحة بيضاء، وما يُنقش في نفوسهم منذ الصغر يبقى معهم مدى الحياة، وقد يكون إهمال الوالدين أو سوء معاملتهم لأبنائهم سببًا في انحرافهم أو معاناتهم نفسيًا واجتماعيًا.

يروي التاريخ أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو عقوق ابنه، وحين استدعى عمر الابن وسأله، تبيّن أن الأب نفسه لم يحسن اختيار أم ابنه، ولم يهتم بتربيته وتعليمه، فقال له عمر: “لقد عققته قبل أن يعقك”، مشيرًا إلى أن العقوق قد يبدأ من الآباء أنفسهم عندما يهملون حقوق أبنائهم في التنشئة السليمة. وهذا ما أكده النبي ﷺ حين قال: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” (رواه البخاري ومسلم)، فالآباء مسؤولون أمام الله عن رعاية أبنائهم وتربيتهم التربية الصالحة، وإلا كانوا آثمين بحقهم.

ومن أول الحقوق التي يجب أن يؤديها الأب تجاه أبنائه حسن اختيار أمهم، فالأم هي المدرسة الأولى للأبناء، ولها دور محوري في تشكيل شخصياتهم. وقد أوصى النبي ﷺ بذلك حين قال: “تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك” (رواه البخاري ومسلم). فالمرأة الصالحة تُنشئ جيلًا صالحًا، والعكس صحيح، لأن الصفات والسلوكيات تنتقل عبر الأجيال، كما قال النبي ﷺ: “تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس” (رواه ابن ماجه)، مما يدل على أهمية حسن الاختيار فلا يصح أن تختار من أبوها قانل أو أخوها مجرم سارق وتقول ما ذنبها وأنت لا تعلم ما مرت به من سجون ومجرمين وتبرأ الأهل منهم فكل ذلك يجعل إبنك لا يرفع رأسه أمام أصدقائه.

وكما أن حسن اختيار الزوجة حق للأبناء، فإن حسن اختيار الزوج أيضًا حق للمرأة وأبنائها، فالرجل هو قائد الأسرة، وعليه أن يكون قدوة في الأخلاق وتحمل المسؤولية، وقد كان النبي ﷺ خير مثال في ذلك، حيث كان يعين أهله في أمور البيت، وعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن حاله في المنزل قالت: “كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة” (رواه البخاري). ومن صفات الأب الصالح أن يكون قدوة حسنة، عادلًا، قادرًا على تحمل المسؤولية، حكيمًا في قراراته، وداعمًا لأبنائه في تحقيق طموحاتهم.

لا تقتصر مسؤولية الوالدين على التربية والتعليم فقط، بل تمتد إلى الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية. فمن واجبهم توفير التطعيمات الطبية والفحوصات الدورية لأبنائهم، وضمان التغذية السليمة لنموهم الجسدي والعقلي. كما أن الصحة النفسية لا تقل أهمية، فالعنف الأسري أو الإهمال العاطفي قد يترك أثرًا سلبيًا على الطفل يستمر معه مدى الحياة. إضافة إلى ذلك، يجب تعليم الأبناء النظافة والعادات الصحية السليمة، لما لها من دور كبير في تكوين سلوكهم اليومي.

ومن الناحية الاجتماعية، تقع على عاتق الوالدين مسؤولية تعليم أبنائهم احترام الجيران وحسن التعامل مع الآخرين، وغرس قيم احترام كبار السن، كما قال النبي ﷺ: “ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر” (رواه الترمذي). كما أن ترسيخ أهمية صلة الرحم وتعويد الأبناء على زيارة الأهل وتقوية العلاقات العائلية من الأمور التي تساعد في بناء مجتمع متماسك مترابط.

أما التعليم والتثقيف، فهما من أهم الواجبات التي تقع على عاتق الآباء، فالتعليم ليس مجرد تحصيل دراسي، بل وسيلة لتشكيل فكر الأبناء، وتنمية قدراتهم، وحمايتهم من الانحرافات الفكرية والسلوكية. وقد قال النبي ﷺ: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” (رواه ابن ماجه). ومن الخطأ أن يترك الوالدان هذه المهمة للمدرسة وحدها، بل يجب أن يكونا أول معلمين لأبنائهما، يشجعونهما على القراءة، ويحفزونهما على التعلم والتفكير النقدي، ويحرصان على توجيههما نحو مصادر المعرفة النافعة.

هناك جانب آخر من العقوق قد لا ينتبه إليه الكثيرون، وهو القسوة والإهمال الزائد من جانب الوالدين تجاه أبنائهم، فبعض الآباء يظنون أن التشدد والقسوة الزائدة في التربية أمر ضروري، بينما يؤدي ذلك في الحقيقة إلى ضعف الروابط العائلية وتأثير سلبي على نفسية الأبناء. وقد ضرب النبي ﷺ أروع الأمثلة في الرحمة والاحتواء، حيث كان يقبّل حفيده الحسن بن علي رضي الله عنه، فقال له أحد الصحابة: “إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدًا منهم”، فقال له النبي ﷺ: “من لا يرحم لا يُرحم” (رواه البخاري ومسلم). وهذا يؤكد أن الحب والاحتواء العاطفي من أهم حقوق الأبناء، لأنهما يساعدان في تنشئة جيل متوازن نفسيًا واجتماعيًا.

إن الزواج ليس مجرد عقد بين رجل وامرأة، بل هو أساس بناء أسرة قوية، ومسؤولية عظيمة تستلزم الوعي والتخطيط السليم. فإذا أحسن الزوجان الاختيار، وقاما بواجباتهما تجاه أبنائهما، نشأ جيل مسؤول قادر على النهوض بالمجتمع. وقد قال النبي ﷺ: “ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة” (رواه البخاري ومسلم)، مما يدل على عِظَم مسؤولية الآباء تجاه أبنائهم.

فلنحرص جميعًا على أداء حقوق أبنائنا، فهم أمانة في أعناقنا، وإذا أعددناهم إعدادًا جيدًا، سنحصد ثمار ذلك في حياتهم وفي المجتمع ككل. فالولد الصالح ليس فقط امتدادًا لأسرته، بل هو لبنة صالحة في بناء الأمم وازدهارها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى