أسرار التكرار في القرآن الكريم

بقلم: ناصر السلاموني
رئيس الاتحاد الدولي للصحافة العربية
القرآن الكريم كتاب هداية، يخاطب العقول والقلوب بأسلوب بليغ معجز. ومن أبرز أساليبه البلاغية التكرار، الذي لم يأتِ عبثًا، بل جاء بحكمة إلهية عظيمة تخدم غايات متعددة، مثل تثبيت العقيدة، التذكير، التحذير، التدرج في البيان، وترسيخ الحقائق الإيمانية.
يُروى أن أحد المشككين أراد الطعن في التكرار القرآني، فسأل أحد الرعاة مستهزئًا:
“لماذا لا نكتفي بآية واحدة لكل موضوع؟”
فرد عليه الراعي بحكمة:
“إن الله خلق لك عينين، وذراعين، وأذنين، فهل تكتفي بواحدة منها؟!”
وهذا يوضح أن التكرار ضرورة في نظام الحياة، وكذلك هو في القرآن، حيث يخدم أغراضًا تربوية وتشريعية وإيمانية.
أهداف التكرار في القرآن الكريم
1. التكرار التأكيدي لترسيخ العقيدة
التوحيد هو محور الرسالة الإسلامية، ولذلك جاء التكرار ليؤكد هذه الحقيقة الأساسية، كما في سورة الكافرون، حيث قال الله تعالى:
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿١﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٢﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿٣﴾… ﴾
تكرار العبارات يرسخ استحالة التوحيد مع الشرك، مما يزيل أي لبس أو شك.
وفي سورة الرحمن نجد تكرار الآية ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ (31 مرة)، وهو أسلوب استنكاري يؤكد نعم الله على الإنس والجن.
2. التكرار التربوي للتعليم والتذكير
التكرار وسيلة تربوية تساعد في ترسيخ المفاهيم، كما قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ﴾ (الإسراء: 41).
أي أن الله يكرر الحجج والمواعظ بأشكال مختلفة لتذكير الناس، لكن بعضهم يزداد عنادًا.
3. التكرار التحذيري لتأكيد العاقبة
الله يكرر التحذير من العذاب، كما في قوله تعالى:
﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ (التكاثر: 3-4).
التكرار هنا يزيد الأثر في النفس، مما يجعل الإنذار أشد وقعًا.
4. التكرار في القصص القرآني للعبرة والتدبر
القصص القرآني يتكرر بصيغ مختلفة، مثل قصة موسى وفرعون، حيث قال الله تعالى:
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴾ (النازعات: 24)، وقال في موضع آخر:
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي ﴾ (القصص: 38).
التكرار هنا ليس مجرد إعادة، بل هو تنوع في الطرح يعزز الفهم والتدبر.
5. التكرار لإثبات الألوهية والبعث
التساؤلات المتكررة في القرآن مثل:
﴿ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾، ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾
تحفّز العقل على التفكر في قدرة الله، مما يفتح أبواب الهداية.
6. التكرار في بيان عاقبة الإيمان والكفر
يتكرر ذكر مصير المؤمنين والكافرين يوم القيامة، كما في سورة الزمر:
عاقبة الكافرين:
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا…﴾
عاقبة المؤمنين:
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا…﴾
التكرار في “وسيق” يبرز عدل الله في الفصل بين الفريقين.
7. التكرار في بيان الرزق وقضاء الله
جاءت عبارة “إن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر” في عدة مواضع، منها:
سورة الرعد (26): ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا…﴾
سورة العنكبوت (62): ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
سورة سبأ (36): ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
سورة الزمر (52): ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
دلالة التكرار في الرزق إنما هو تأكيد على أن الله هو المتصرف في الأرزاق و كذلك التحذير من الاغترار بسعة الرزق، فهو ابتلاء كما أن الضيق ابتلاء. و تعليم العباد التوكل على الله، وعدم الجزع عند ضيق الرزق أو الطغيان عند سعته.
8.التكرار لدلالة سهولة فهم القرآن الكريم وتدبر معانيه
قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) – سورة القمر
تكررت هذه الآية أربع مرات في السورة (الآيات: 17، 22، 32، 40)، وهذا التكرار يحمل عدة دلالات مهمة:
أ. التأكيد على سهولة فهم القرآن: يبين الله أن القرآن ميسر للحفظ والتدبر، وليس كتابًا معقدًا أو مستحيل الفهم.
ب. التحفيز على التدبر والتذكر: السؤال (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يحمل دعوةً متجددةً لمن أراد الاتعاظ وأخذ العبرة من القصص المذكورة في السورة.
ج. التحذير من الغفلة: في كل مرة تُذكر الآية، تكون بعد قصة قوم كذبوا برسلهم ونالوا العذاب، وكأنها تحذير مستمر لمن يكذب بالحق.
د. إظهار رحمة الله بعباده: تكرار الدعوة للذكر يدل على حرص الله على هداية البشر، وأنه لا يريد لهم العذاب.
9- وتكرار قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
وردت هذه العبارة في موضعين:
في آية الكرسي (البقرة: 255)، وهي أعظم آية في القرآن، وتؤكد على وحدانية الله وصفاته العظيمة.
في سورة آل عمران (2)، في سياق الحديث عن نزول الكتاب وهداية الناس وهو يدل على
أ. ترسيخ التوحيد المطلق: لأن الإيمان بوحدانية الله هو أساس العقيدة الإسلامية.
ب. إبراز صفة القيومية: تعني أن الله هو القائم بذاته والقائم على شؤون خلقه، مما يعزز اليقين في قدرته.
ج. التأكيد على ثبات الألوهية: الله لا يتغير ولا يفنى، فهو “الحي القيوم”، مما يبعث الطمأنينة في قلب المؤمن.
د. الربط بين التوحيد والهداية: في سورة البقرة تأتي الآية ضمن الحديث عن الإيمان، وفي آل عمران تأتي في سياق الكتاب المنزل لهداية الناس
وهناك آيات آخر مثل :
1. “كل في فلك يسبحون”
وردت في موضعين في القرآن الكريم:
سورة يس (الآية 40): “لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ”.
سورة الأنبياء (الآية 33): “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ”.
الدلالة: تشير إلى النظام الدقيق لحركة الأجرام السماوية، وتؤكد قدرة الله على خلق الكون بإحكام.
2. “لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين”
سورة آل عمران (الآية 28): “لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ…”
الدلالة: تحذر المؤمنين من التحالف مع غيرهم على حساب دينهم، وتؤكد وجوب الولاء لله وللمؤمنين.
3. “إن الله يغفر الذنوب جميعًا”
سورة الزمر (الآية 53): “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا…”
الدلالة: تبعث الأمل في التوبة وتشجع العصاة على الرجوع إلى الله، فهو غفور رحيم.
4. “كتب على نفسه الرحمة”
وردت في موضعين:
سورة الأنعام (الآية 12): “قُلْ لِمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ…”
سورة الأنعام (الآية 54): “إِنَّ رَبَّكُمْ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ…”
الدلالة: تؤكد سعة رحمة الله التي تشمل كل شيء.
5. “رب المشرق والمغرب”
سورة المزمل (الآية 9): “رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا”.
الدلالة: تأكيد ملكية الله للكون كله، فهو المتصرف في كل شيء.
6. “رب المشرقين ورب المغربين”
سورة الرحمن (الآية 17): “رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ”.
الدلالة: إشارة إلى اختلاف مشرق الشمس ومغربها بين الشتاء والصيف.
7. “رب المشارق ورب المغارب”
سورة المعارج (الآية 40): “فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ”.
الدلالة: تشير إلى تعدد المشارق والمغارب بسبب حركة الأرض وتغير الفصول.
8. “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة”
وردت في عدة مواضع منها:
سورة البقرة (الآية 43): “وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ”.
الدلالة: تؤكد أهمية العبادات الأساسية في الإسلام.
9. “ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين”
وردت في مواضع منها:
سورة البقرة (الآية 168): “يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ…”
الدلالة: تحذير من الانسياق وراء وساوس الشيطان.
10. “وما تنفقوا من خير فلأنفسكم”
سورة البقرة (الآية 272): “وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ…”
الدلالة: توضيح أن الصدقات تعود بالنفع على المتصدق نفسه.
11. “وما تنفقوا من خير يوف إليكم”
سورة البقرة (الآية 272): “… وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ”.
الدلالة: تأكيد على أن الإنفاق في سبيل الله لا يضيع أجره.
12. “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”
سورة المائدة (الآية 44).
الدلالة: تحذير من رفض شرع الله في الحكم.
13. “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون”
سورة المائدة (الآية 45).
الدلالة: ظلم النفس والمجتمع بعدم تطبيق شرع الله.
14. “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون”
سورة المائدة (الآية 47).
الدلالة: الخروج عن طاعة الله بترك حكمه.
مما سبق يتضح أن التكرار في القرآن الكريم ليس مجرد إعادة للألفاظ، بل هو منهج تربوي إلهي يجعل الحقائق تتجلى في القلوب. فهو يخدم أغراضًا متعددة كما قلنا في المقدمة، منها التأكيد، والتربية، والتحذير، والتعليم، والإعجاز البلاغي وغيرها.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل التدبر في كتابه الكريم، وأن يرزقنا فهم أسراره وحكمه، إنه سميع مجيب.