محمد الباز يكتب: الجنازة حارة والميت ليس كلبًا

جلس الكاتب الصحفي الكبير أنور الهواري مع مجموعة من الشباب في العشرينيات، سأله أحدهم عن عمله، فقال له: أنا صحفي في الأهرام.
لم يعرف أحد من الشباب صحيفة الأهرام التي يتحدث عنها “أنور” ويقول إنها مقر عمله، كما لم يعرف أحد منهم أي صحيفة أخرى.
المفاجأة لم تكن في ذلك، ولكن ما صدم “أنور” بشدة أن أحد الشباب قال له: ليه متعملوش إعلانات عشان الناس تعرفكوا؟
كان يمكن للصديق العزيز أنور الهواري أن يبتلع الصدمة ويصمت، لكنه قرر أن يجعل الحوار الذي دار بالصدفة بينه وبين الشباب موضوعًا لنقاش عام، فنشر ما جرى على صفحته على “فيسبوك”، لتتوالى التعقيبات والتعليقات.
دخل على الخط الكاتب الكبير أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام السابق، وكتب تعليقًا أقام الدنيا وشغل الناس، قال: “مش محتاجين نعمل إعلانات للبهايم”.
انتقل النقاش بعد هذا التعليق إلى مساحة مختلفة مع الأسف الشديد كانت هزلية ومتشنجة ومنفعلة، أضاعت جوهر النقاش الذي نقله “أنور”، والذي يؤكد أننا نعيش في كارثة لن يجدى معها الحوار الهزلي ولا التعليقات المنفلتة ولا القفشات السمجة ولا حتى إلقاء الاتهامات جزافًا على بعضنا البعض بتحمل مسئولية الانهيار الذي تعيشه الصحافة المصرية.. ولن أبالغ إذا قلت والصحافة العربية أيضًا.
المشكلة التى أثارها هذا النقاش فى الحقيقة ليست فيما يخصّ الأهرام أو الصحافة المصرية ومن ورائها الصحافة العربية كلها فقط، لكنها تكشف لنا عن أبعاد وملامح في هذا الجيل الذي لا يعرف شيئًا عن الصحيفة الأهم والأقدم في مصر والعالم العربي، وإن كان هذا لا ينفي أن لدينا مشكلة في تصوراتنا عما وصل إليه حال الصحافة والصحفيين والإعلام والإعلاميين.
لكن لماذا لا نبدأ بالمشكلة الأهم وهي مشكلة الجيل الذي حكمنا عليه بالجهل، لأنه لا يعرف الأهرام، ونسأل: وهل يعرف هذا الجيل شيئا آخر؟
في مسلسل “عايشة الدور” الذي تقوم ببطولته دنيا سمير غانم، يقف الدكتور في قاعة المحاضرات ويسأل الطلاب والطالبات الذين هم في العشرينيات أيضًا عما يمسك به، وكانت في يده ربابة، فلا يعرفها أحد من بين الموجودين في القاعة.
في مسلسل “الغاوى” الذي يلعب بطولته النجم أحمد مكي يقف أمامه ساعي بريد يقدم له خطابًا، فيقول له: “هو لسه فيه جوابات.. ده الفاكس انقرض.. هم لغوا الواتساب ولا إيه؟”.
الحقيقة أنني لا أرى مشكلة إطلاقًا لدى هذا الجيل حتى لو بدا أمامنا جاهلًا تمامًا، فنحن نحاكمه بمعاييرنا التقليدية.
فقد لا يعرفون الأهرام ولا يعرفون كذلك أي صحيفة مصرية أو عربية أخرى، لكنهم في الوقت نفسه يعرفون أدوات ووسائل أخرى يحصلون منها على معلوماتهم ومعارفهم ويكتبسون من خلالها خبراتهم، ويطلعون عبرها على الدنيا.
وهم أيضًا قد لا يعرفون الربابة كآلة موسيقية عظيمة وعريقة ولها شأن في تراثنا الموسيقي، ولكنهم في الوقت نفسه يعرفون آلات أخرى ويستمعون إلى موسيقى مختلفة، قد لا نعرف نحن عنها شيئًا.
وصحيح أيضًا أن خطابات البريد التي كان يحلو لنا أن نكتب على مظاريفها من الخارج: شكرًا لساعي البريد، قد تكون بالنسبة لهذا الجيل آثارًا تجاوزها الزمن، فهم لا يحتاجون إليها، لأنهم يتواصلون مع بعضهم البعض بما وفرته لهم التكنولوجيا فى الآن واللحظة.
إنني أتابع حالة من القلق الشديد والخوف الأشد على الأجيال الجديدة.
قد نتجاوز جيل x (مواليد من ١٩٦٥ إلى ١٩٧٩) وجيل الألفية (مواليد ١٩٨٠ إلى ١٩٩٥)، فهم يدورون في فلك الأحكام التقليدية المتعلقة بالتعليم والمعرفة والثقافة والأخلاق والسياقات التى فرضها المجتمع طويلًا على من يعيشون فيه.
لكننا فيما أعتقد لا بد أن نتوقف طويلًا عند جيل z (مواليد ١٩٩٦ إلى ٢٠٠٩) وجيل ألفا (مواليد ٢٠١٠ إلى ٢٠٢٤).. ولن يعنينا بالطبع جيل بيتا لأنه سيبدأ من (مواليد العام ٢٠٢٥ حتى العام ٢٠٣٩).
في الملعب الآن جيل z وألفا، والحقيقة التي تتكشف أمامنا كل يوم أننا لا نعرف عنهم شيئًا، بل إننا لم نقم من الأساس بتربيتهم، تركناهم جميعًا للتكنولوجيا تربيهم بمعرفتها، لذلك فنحن لا نستطيع أن نحكم لا على معلوماتهم ومعارفهم ولا أذواقهم وأخلاقهم، وأعتقد أننا لو دخلنا في مناقشات معهم مثل تلك التي وجد الكاتب الكبير أنور الهوارى نفسه فيها بالصدفة، فسنجد في طريقنا كثيرًا من الصدمات، بل إننا لن نكف عن الاندهاش، والسبب لأن أبناء هذه الأجيال بالنسبة لنا مجهولًا كاملًا.
بالنسبة لي ليست لدىّ مشكلة إطلاقًا في منظومة المعرفة ولا منظومة الأخلاق التي تميز أبناء هذا الجيل، لدىّ مشكلة واحدة في إحساسهم بالمسؤولية وفي شكل علاقتهم بوطنهم، يزعجني هذا أكثر من أي شىء آخر، ولو أردنا أن نسدي لهم معروفًا – في الحقيقة أننا نسديه لأنفسنا ولوطننا أيضًا- فلا بد أن نعمل على تنمية وعيهم بمسؤوليتهم عن مستقبل هذا البلد.
لقد صنعت التكنولوجيا وأدوات التواصل الحديثة جيلًا ينتمي إلى العالم أكثر من انتمائه إلى وطنه، بضغطة زر واحدة يستطيع أن يعرف كل وأي شىء عن العالم، وعبر شاشات الموبايل أو اللاب توب يستطيع أن يكوّن صداقات ويجري حوارات مع شباب من دول أخرى، يعرفون عن العالم أكثر مما يعرفون عن وطنهم، ولاؤهم لما يريدون وما يحتاجون وما يعتقدون أنه صحيح، وكل ما خلاف ذلك لا يعنيهم أو يشغلهم فى شىء.
ولأننا للأسف الشديد في مجتمعاتنا العربية لا ننتج شيئًا حقيقيًا، فقد تحول شبابنا إلى مستلهكين نَهِمين لما ينتجه العالم من حولنا، وسهلت لهم التكنولوجيا الحصول على كل ما يريدونه بسهولة ودون عناء.
كان صعبًا على الأستاذ أنور الهوارى وعلى جموع الصحفيين ألا يعرف شباب العشرينيات الأهرام وأى صحيفة أخرى، وقد تابعت البكائيات المطولة على ما وصلت إليه أحوال الصحافة فى مصر.
لكن كان على أصحاب البكائيات أن ينتبهوا إلى الخطر الذي يهدد هذا الجيل، أن يدرسوه ويتعرفوا عليه، ويقفوا على حقيقته، وهل يمكن أن يكون هذا الجيل مؤهلًا لأن يتحمل مسؤولية مستقبل هذا البلد أم لا؟
لكن ولأن السياسة في بلدنا تحكم، ولأن هناك جدلًا كبيرًا وتناوشًا متجددًا واتهامات تتطاير فوق رءوس الجميع، فقد تحول النقاش من مساره الحقيقي ومجراه الطبيعي إلى حديث طويل عن الصحافة والإعلام من زاوية ضيقة جدًا وهي زاوية علاقتها بالسياسة وما ترتب على ذلك، ووجهت أصابع الاتهام جميعها إليها، فطالما أن هؤلاء الشباب لا يعرفون شيئًا عن الأهرام فلأن الأهرام مُقصَرة، وطالما أن هؤلاء الشباب لا يعرفون شيئًا عن الصحف الأخرى، فلأن هذه الصحف انهارت تمامًا ولم يعد لها أثر بل لم يعد لها وجود من الأساس.
السؤال الصحيح الذى يجب أن نسأله حتى نحصل على إجابات صحيحة هو: هل يحتاج هذا الجيل إلى صحيفة الأهرام؟ هل يحتاج إلى الصحف المصرية جميعها؟ هل يحتاج إلى المواقع الإلكترونية بشكلها الحالي؟ هل يحتاج إلى قنوات التليفزيون التقليدية؟ هل يحتاج إلى قاعات السينما وما يحيط بها من طقوس؟
لم يفكر أحد حتى الآن في سؤال هذا الجيل، ليس عما يريده فقط ولكن عن الطريقة التى يمكن أن يحقق بها الذى يريده؟
ما لا يعرفه كثيرون مثلًا أن مؤسسة الأهرام العريقة ومن خلال مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية أصدرت عدة كراسات خلال الشهور الماضية ضمن سلسلة “رؤى مصرية”، خصصتها لمناقشة الأجيال الجديدة، وقرأت فيها دراسات مهمة بالفعل عن هذه الأجيال، ينقصها فقط الاقتراب الواقعي من الشباب، وهو ما يجعلها دراسات تسبح بالقرب من الشاطئ، ولا تتورط بالسباحة فى العمق.
ما أراه وحتى لا نضيع وقتنا هو أن نفكر كيف نخاطب من مؤسساتنا الإعلامية على اختلاف توجهاتها وأنماط ملكياتها هذه الأجيال؟ لا بد أن نسال أنفسنا عن الأدوات التى يجب أن نستخدمها والأشكال التى نقدمها.
إننا لا نزال أسرى للأدوات القديمة والوسائل التقليدية والأساليب العتيقة والأفكار الكلاسيكية والأدبيات التراثية، وكلها لن تجعلنا ننجح فى مخاطبة الأجيال الجديدة، وهو ما يجعلنا بالنسبة لهم خارج التاريخ.. هم يتعاملون معنا كذلك بالفعل.. نحن لسنا أكثر من ديناصورات منقرضة.
لقد أخذ من أزعجتهم عدم معرفة الشباب للأهرام فى توجيه مدفعيتهم الثقيلة إلى المناخ الذى يعمل فيه الإعلام.
انتقصوا من قدر من يعملون فى منظومة الإعلام المصرية فى مستوياتها المختلفة.
وأعتقد أن ساحة المعركة خاطئة تمامًا.
لا أنكر كما لا ينكر أى عاقل أننا جميعًا قصرنا فى حق مهنتنا.
ولا أنكر كما لا ينكر أى عاقل أن هناك عوامل كثيرة لعبت دورًا كبيرًا فى الخلل الذى يعانى منه الإعلام.
لكنى أعتقد أنها عوامل هامشية، يمكن التغلب عليها، لو أننا فكرنا بعقل الأجيال الجديدة.
إننا نتمسك بوجودنا على أرض المهنة كما نحن، ولا نلتفت إلى أن هناك أجيالًا تجاوزتنا، تعتبر حتى الشباب فى المهنة عواجيز تخطاهم الزمن، أصبحوا موضة قديمة، وتخيل أن أبناء العشرينيات الآن ينظرون إلى الشباب فى الثلاثينيات ممن يعملون فى مهنة الإعلام على أنهم موضة قديمة، وأنهم لا بد أن يبحثوا عن مضمون جديد، لأن ما يقدمونه عفت عليه الأيام وعافت منه.
يمكننا أن نعترف بسهولة أننا لن نقدر على تقديم إلا ما نقدمه، لا نملك القدرة على أن نقدم إعلامًا يتناسب مع مستهلكيه الجدد، لكن هذا الاعتراف فى رأيى لن يكون إلا استسلامًا كاملًا وتسليمًا للأجيال الجديدة بأننا أصبحنا من الماضى.. أصبحنا مجرد تراث.
قبل سنوات اجتمعنا فى الهيئة الوطنية للصحافة، كان الاجتماع مخصصًا لمواجهة ما تواجهه الصحف الورقية من تحديات، سمعت اقتراحات عديدة وأفكارًا مختلفة ساقها أصحابها على أنها إنقاذ لما وصلت إليه أحوال الصحافة المصرية.
يومها قال أحد المشاركين: هناك مشكلة كبيرة فى حديثنا عن الصحافة المصرية، وما يجب أن نتوافق حوله أننا نعانى من أزمة فى الصحافة الورقية، لكننا لا نعانى من أزمة فى الصحافة نفسها.
أعتقد أن هذا التوصيف الأدق للواقع.
المشكلة بالفعل هي مشكلة وسيط وليست مشكلة محتوى، لكن ولأننا نعاني طول الوقت من فوضى معرفية، فإن توصيف المشكلات لا يكون دقيقًا، وعليه فإن كل الجهود التى تُبذل من أجل حل هذه المشكلة تضيع فى الهواء، لأننا ندفع بها فى اتجاه غير صحيح.
راجعوا معي كل المؤتمرات والندوات والمقالات والخطب الرنانة عن الصحافة المصرية ومستقبلها الغامض، ستجد كلامًا هزيلًا هزليًا لا صلة له بالواقع، ولا فرق في ذلك بين المؤتمرات والندوات التى تعقد فى نقابة الصحفيين أو تلك التى تشهدها كليات ومعاهد الإعلام فى مصر، فالجميع يتحدثون عن مريض لم يتطوع أحد ليفحصه الفحص الصحيح.
إننى لست منزعجًا من جهل شباب العشرينيات بالأهرام أو بغيرها من الصحف، ولكنى منزعج من حالة عدم الفهم التي تحيط بمستقبل المهنة، تلك التى يتعامل معها كثيرون على أنها ماتت وصعدت روحها إلى الرفيق الأعلى، وهو ما يدعونا لأن نعيد النظر فى طريقة تفكيرنا حول ما نريده لها، بعيدًا عن الانحيازات السياسية والتعقيدات الأيديولوجية والتشابكات الفكرية.. فالأمر أبسط من ذلك بكثير.
مستقبل الصحافة فى مصر ليس مرهونًا بما يفعله أبناء المهنة فقط، بل مرهون بما يمكن أن يقدمه المجتمع كله، فنحن لا نعمل فى مهنة نوعية لا تهتم إلا بمن يعملون فيها وبعض المستفيدين منها فقط، بل هى مهنة تنشغل بالمجتمع كله، وينشغل بها المجتمع كله.
وإذا كان هناك من يعتبر أن الصحافة ماتت بدليل أن هناك من لا يعرف أسماء الصحف من الأساس، ويسيرون فى جنازة المهنة الآن يبكون بحسرة شديدة، فإننى أهمس فى آذانهم بأن الجنازة حارة فعلًا.. لكن الميت الذى يعتقدونه ليس كلبًا ضالًا، ولكنها مهنة يجب أن نطورها بما يناسب مستهلكيها الجدد، لا أن نتعامل معها بأفكارنا وأساليبنا التقليدية، وإلا فإننا نسارع بدفن جثة لا تزال فيها الروح.
المقال نقلاً عن موقع “حرف”