القطاع العقاري والتسعير على الورق.. من هنا تبدأ الفقاعة

بقلم – محمد أحمد الطنطاوي

في ظني وبعض الظن صدق، أن هناك أزمة كبيرة في تسعير العقارات خلال الوقت الراهن بصورة أنتجت ما يسمى “التسعير على الورق”، فالوحدات السكنية والإدارية ارتفعت بشكل جنوني، ربما الضعف أو أكثر خلال الأعوام الثلاثة الماضية، لكن مع هذا الارتفاع تتضاءل أحجام المبيعات، ويزحف الركود سريعًا نحو هذه السوق التي كانت على رأس أولويات المصريين طيلة 10 سنوات مضت.

مع الصعود الكبير في عمليات التسعير على الورق، ظهرت فكرة البيع الكاش بخصم 50%، فيمكنك أن تحصل على شقة سعرها المعلن 4 ملايين جنيه بالتقسيط، بينما يمكنك حيازتها بـ 2 مليون جنيه فقط، حال الشراء كاش، ومع ذلك ليس هناك إقبال واضح على البيع كاش أو الريسيل “إعادة البيع”، خاصة أن تكلفة الفرصة البديلة في شراء شهادات البنوك مرتفعة العائد أو أذون وسندات الخزانة تصل إلى نحو 30% في الوقت الراهن، لذلك كل مليون جنيه يربح 300 ألف جنيه سنويًا، وكل 10 ملايين تربح 3 ملايين، وهذا يؤشر إلى أن من يمتلك هذا المبلغ لن يحتاج إلى الشراء بنظام الكاش، بل يمكنه أن يحصل على الشقة مجاناً، وسداد أقساطها من الفوائد الشهرية، ويظل أصل المال موجود.

الوحدات السكنية، خاصة في المدن والمجتمعات الجديدة ليست وسيلة مثالية للاستثمار، نظرًا لضعف الخدمات في هذه المدن، بالإضافة إلى تراجع أسعار الإيجارات نتيجة نقص الخدمات والبعد نسبيًا عن العاصمة التاريخية، ومنطقة وسط البلد والقطاعات الخدمية والشركات والبنوك، بجانب تكلفة المواصلات والحركة، التي باتت مرتفعة الثمن، بعد تحريك أسعار الوقود والمواد البترولية، وإعلان الحكومة بشكل رسمي خطة لرفع الدعم تدريجيًا.

أتصور أن المستقبل القريب في القطاع العقاري يدعم فكرة التوسع في الوحدات المؤجرة بدلاً من التمليك، خاصة في ظل الأسعار الجنونية التي يتم الإعلان عنها في الوقت الراهن، والركود في حركة البيع والشراء منذ عدة سنوات، خاصة في ظل انكماش حجم السيولة من الأسواق، بجانب ارتفاع تكلفة المعيشة بالصورة التي جعلت المواطنين أقل قدرة على الادخار، وبالتالي باتوا غير مهتمين بالاستثمار في العقارات، بل فقط يتجهون لتغطية نفقاتهم الشهرية.

هناك أيضا فكرة مهمة مرتبطة بانخفاض العائد من العقارات سواء كانت وحدات سكنية أو إدارية، فالشقة التي يبلغ ثمنها بسعر السوق اليوم 5 ملايين جنيه، لن تتجاوز قيمتها الإيجارية 30 ألف جنيه شهريًا، بينما نفس المبلغ إذا تم استثماره في شهادات البنوك مرتفعة العائد، سوف يُدر أكثر من 100 ألف جنيه شهريًا، أي ثلاثة أضعاف العائد من الإيجار، لذلك من يمتلك هذا المبلغ لن يخاطر أبدًا في توظيفه بشراء عقار، خاصة أن هناك صعوبة بالغة حال الرغبة في تسييله، ربما يحتاج صاحبه إلى سنوات لتنجح عملية البيع، بينما الشهادة البنكية يمكن استحقاقها في دقائق معدودة، وكذلك الأصول “مخزن القيمة” مثل الذهب أو الألماس أو الفضة، فيمكن تسييلها بسهولة.

من وجهة نظري، أرى أن أهم المشكلات التي تواجه القطاع العقاري في الوقت الراهن هي “صعوبة البيع”، على مستوى الأفراد تحديدًا بدرجة أكبر من الشركات، فالأخيرة يمكنها أن تبيع بالتقسيط على سنوات طويلة ومقدمات أقل من 5%، بينما الأفراد يفضلون الحصول على أموالهم كاش، ولا يمكنهم التقسيط لأكثر من عدة أشهر، لكن المشكلة أن الاستثمار الفردي في العقار ظاهرة مصرية خالصة، فهناك ملايين الوحدات السكنية مغلقة يمتلكها أفراد لا شركات، تحت فكرة أنها استثمار للمستقبل، هذه الوحدات لا تقدم عائد، وحال اهتزاز هذه الكتلة وتحركها نحو البيع سوف يصاب السوق بصدمة غير مسبوقة.

كل التقديرات التي يسوقها الخبراء نحو الفقاعة العقارية إما مبالغ فيها من ناحية، أو صادرة عن أصحاب مصالح ينكرون وجودها وتأثيرها وينفون بشكل قاطع اتجاه السوق إليها في الوقت الراهن أو المستقبل القريب من ناحية أخرى، لكن الدلائل تؤشر أن هناك مشكلة واضحة في القطاع العقاري قد تقوده إلى فقاعة من نوع خاص، بدأت في النمو منذ عام 2016 مع تحريك سعر صرف الجنيه من 8 جنيهات و88 قرشًا حتى وصل إلى 18 جنيه تقريبًا، وظل على تلك الحالة لفترة انعكست على أسعار العقارات، وتحركت بنحو 100% تقريبًا وقد امتص السوق هذه الصدمة بنجاح ولم تتأثر عمليات بيع وشراء العقارات بالصورة التي نراها اليوم.

إلا أن التعويم الثاني للجنيه في 21 مارس 2022 وتحريك العملة المصرية من مستوى 15.66 جنيه للدولار إلى 19.70 جنيه، ثم التعويم الثالث في 27 أكتوبر 2022، الذي وصل معه الجنيه إلى مستويات 24.70 جنيه، وقد كان العام 2022 جوهريًا في القطاع العقاري، نتيجة نقص المعروض من العملات الصعبة، وتراجع المواطنين عن الاستثمار فيه، مقابل الذهب والشهادات البنكية، وهو ما جعل بوادر الركود تزحف ناحيته بقوة.

التعويم الرابع للجنيه كان في يناير 2023، وقد وصل خلاله الدولار إلى مستوى 30.90 جنيه، ثم التعويم الأخير في مارس 2024، ووصل معه سعر العملة الخضراء إلى 50 جنيهًا، ثم تراجع إلي مستويات 46 و 47، حتى وصل إلى مستوى فوق الـ 50 جنيهًا بأسعار صرف اليوم، لذلك مع هذه الرحلة التي شملت 5 تعويمات ارتفع الدولار خلالها 6 أضعاف تقريباً أمام الجنيه المصري، وهو ما أدى في الوقت ذاته إلى صعود العقار بذات القيمة، فالشقة التي كانت قيمتها مليون جنيه تقريبًا باتت في الوقت الراهن بـ 5 ملايين أو يزيد، لكن المشكلة الحقيقية أن أغلب عمليات تخفيض العملة كانت متسارعة جداً في العامين الأخيرين، وهو ما أثر على القطاع العقاري بصورة كبيرة، وجعل العقار يرتفع ورقياً بصورة يراها الناس مبالغ فيها، حتى وإن كان التعويم أمر واقع.

في مقال بعنوان “the Bubble is back” أو عودة الفقاعة، بجريدة نيويورك تايمز الأمريكية، يقول بيتر ويلسون، مستشار سابق للبيت الأبيض، ومتخصص في دراسات السياسة المالية في معهد إنتربرايز الأمريكي، إنه بعد الأزمة المالية العالمية 2008، والركود والانتعاش البطيء، بدأت الفقاعة العقارية في النمو مرة أخرى، وبين عامي 2011 والربع الثالث من عام 2013، ارتفعت أسعار المساكن بنسبة 5.83 %، متجاوزة مرة أخرى الزيادة في تكاليف الإيجار، التي بلغت فقط 2%”، أي بمعدل حوالي 3 أضعاف تقريباً وهو ما يحدث جلياً في السوق المصرية، فتكلفة الإيجار حال مقارنتها بسعر الوحدة السكنية، سنجد أن قيمتها أقل 3 أضعاف تقريبًا وهو ما يضعنا على حافة السيناريو الصعب، وهو أن الفقاعة ربما أوشكت على الانفجار.

قضية الفقاعة العقارية في مصر يجب أن تحظى بدراسة وافية من جانب الحكومة والقطاع الخاص، للتعرف على تبعاتها خلال الفترة المقبلة، دون تهوين أو تهويل، فلا يمكن أن نستمع فقط إلى المطورين وأصحاب المصالح ونقول إن الفقاعة لن تحدث أبدًا، فهذا طرح يخالف الواقع، ويفشل في قراءة الأرقام والمعطيات، ويعجز عن فهم النماذج العالمية المشابهة، خاصة أنه لا يوجد رقم حقيقي دقيق عن حجم ما يحتاجه السوق سنويأ من الوحدات السكنية، سواء المخصصة لمحدودى الدخل أو الفئات المتوسطة أو الفاخرة، لذلك يجب أن تخضع القضية لدراسات أكثر شفافية، وتعامل أكثر وعيًا يفترض سيناريوهات ربما أكثر قتامة تنتظر هذا القطاع الذي ادخر فيه المصريون مئات المليارات.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى