لواء دكتور سمير فرج يكتب: أجمل يوم في حياتي في مدينة بورسعيد

يوافق يوم الأحد القادم، 23 ديسمبر، وهو اليوم الذي تحتفل فيه مصر، وشعبها، وجيشها، وأبناء بورسعيد، بذكرى أحد أعظم أعيادها الوطنية، وهو عيد النصر على العدوان الثلاثي، المكون من قوات إنجلترا وفرنسا وإسرائيل. تلك الأيام التي أذكر بدء تفاصيلها في أعقاب توقيع اتفاقية الجلاء عام ١٩٥٤، وخروج المستعمر البريطاني، من مصر، بعد 72 عام من الاحتلال، وما تلاه من رفض البنك الدولي تمويل بناء السد العالي، ليتخذ عبد الناصر قراره بتأميم قناة السويس، يوم 26 يوليو 195٦.

فإذا بكل من بريطانيا وفرنسا تحيكان خطة عسكرية ضد مصر، أطلقتا عليها اسم “بروتوكول سيفر”، بهدف التخلص من عبد الناصر، الذي هدد نفوذ بريطانيا، بإجلاء قواتهم من مصر، فضلاً عن تحالفه مع السوفيت لتوريد السلاح ورفع كفاءة الجيش المصري. أما فرنسا، فوجدتها فرصة للانتقام من عبد الناصر، الذي ساند ثورة الجزائر، وأمم قناة السويس، التي كانت، حينئذ، تحت الإدارة الفرنسية، بينما استغلت إسرائيل الفرصة لفك الحصار المفروض على عبور سفنها من قناة السويس.

وطبقاً لبروتوكول سيفر، تم إنزال قوات إسرائيلية في عمق سيناء، يوم 26 أكتوبر ١٩٥٦، معلنة توجهها نحو قناة السويس، وعلى أثره أصدرت بريطانيا وفرنسا إنذاراً بوقف القتال بين مصر وإسرائيل، ومطالبة الطرفين بالانسحاب لمسافة 10 كيلومترات عن قناة السويس، وقبول “دخول” قوات بريطانيا وفرنسا لمدن القناة لحماية الملاحة في قناة السويس، وإلا دخلتها بالقوة. وهو ما رفضته مصر، رفضاً قاطعاً، علماً بمحاولات تلك الدول احتلال مدن القناة.

وفي يوم 31 أكتوبر ١٩٥٦، هاجمت الدولتان مصر، وبدأتا بالغارات الجوية على القاهرة ومدن القناة. ولتفادي تشتيت القوات المصرية، أصدرت القيادة المصرية أوامرها بانسحاب القوات المصرية من سيناء، للتصدي للهجوم على مدن القناة، وبالفعل، بدأت إنجلترا وفرنسا هجومها ضد بورسعيد في يوم 31 أكتوبر.

استيقظت في منزلنا، في بورسعيد، في صباح ذلك اليوم، على صوت قصفات الأسطول البحري الإنجليزي والفرنسي لمدينتي الحبيبة. ورأيت من شرفة منزلنا في بورسعيد، قوات المظلات البريطانية، تهبط في مطار الجميل، فناديت والدي، رحمة الله عليه، ليرى ما يحدث، فانطلق يدير المذياع على محطة BBC، فسمعنا الإنذار الموجه إلى شعب بورسعيد، لإخلاء مساكنهم القريبة من شاطئ البحر، واللجوء إلى المخابئ، تجنباً لقصف المدينة.

وفي نفس اللحظة انتفض أهالي بورسعيد، وبدأت المقاومة الشعبية، بالاندفاع إلى مطار الجميل، ونجحوا في إبادة الفوج الأول من قوات المظلات البريطانية. وبدأ الغزو الفرنسي والبريطاني، حيث تولت القوات البريطانية الهجوم على بورسعيد، بينما هاجمت القوات الفرنسية مدينة بورفؤاد، وتصدت لهما المقاومة الشعبية، لمدة ثلاثة أيام كاملة، حتى جاء يوم 2 نوفمبر، حين صدر قرار مجلس الأمن بإيقاف إطلاق النار، وانصاعت القوات البريطانية والفرنسية للقرار.

وفي هذا اليوم، وفور توقف إطلاق النار، صحبني والدي للتوجه لمنزل جدتي، في شارع الثلاثيني، للاطمئنان عليها، وفي طريقنا إليها، شاهدنا على كل ناصية شهداء المقاومة الشعبية، وسط دمائهم الطاهرة، ووصلنا ميدان المحافظة، فرأينا كل مبانيه محروقة بنيران النابلم، التي قذفتها الطائرات البريطانية والفرنسية.

والحقيقة أنه خلال فترة وجود القوات الغازية في بورسعيد، لم تهدأ عمليات المقاومة الشعبية، وأوجعتهم ضربات الفدائيين المصريين بشدة، والتي كان منها عملية اختطاف الضابط البريطاني مور هاوس، ابن عم ملكة بريطانيا، وكذلك اغتيال ضابط المخابرات البريطاني ويليامز. وتحولت أيامهم، ولياليهم، في معسكرات القوات البريطانية والفرنسية إلى أسود أيام حياتهم، فلم تكن ليلة تمر، إلا ووقد أسخنتهم المقاومة الشعبية بعملياتها الفدائية، حتى انسحبوا يوم 23 ديسمبر 1956، حاملين على جباههم عار هزيمتهم أمام شعب بورسعيد.

ورغم حداثة سني، حينئذ، إلا أنني أذكر، بوضوح، مشهد اندفاعي، مع جموع شعب بورسعيد، لاستقبال طلائع الجيش المصري، عند مدخل مدينتي الحبيبة، التي حررت نفسها من قيود قوات الغدر الإنجليزية والفرنسية. ومنذ ذلك اليوم، صرنا نحتفل، كل عام، في بورسعيد بعيد النصر، باستقبال الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يحرص على التواجد معنا في ذكرى ذلك اليوم العظيم، فكان يمر بسيارته المكشوفة في شوارع بورسعيد، التي يخرج كل أهلها، ويصطفوا على جنبات الطريق، لتحيته، حتى أن بعض كبار السن، ممن لا يغادرون منازلهم، كانوا يخرجون في هذا اليوم لتحية الزعيم جمال عبد الناصر، قبل توجهه إلى ميدان الشهداء، لحضور طابور العرض العسكري.

وكنت وأنا طفل صغير، أقف لمتابعة هذا العرض العسكري، والتصفيق لجنود بلادي، وقررت يومها أن أصبح ضابطاً في القوات المسلحة، ولم أكن أدري أنني بعد تخرجي في سلاح المشاة، سيقرر قائد كتيبتي، أن أحمل علم الكتيبة، في طابور العرض، أمام الرئيس جمال عبد الناصر، في مدينتي الحبيبة بورسعيد، يوم الاحتفال بعيد النصر، فكان ذلك واحداً من أجمل وأسعد أيام حياتي، بعد أن حققت حلمي بأن أصبح ضابطاً بالقوات المسلحة المصرية، وأحمل العلم في طابور العرض أمام الرئيس جمال عبد الناصر، ومن حولي أبناء وأهالي بورسعيد، يتابعون العرض من نفس المكان الذي وقفت فيه من قبل.

ومنذئذ، صارت ذكرى هذا اليوم، عيداً لنصر مصر، عامة، وشعب بورسعيد خاصة، ضد أعتى القوى العالمية، في ذلك الوقت؛ بريطانيا العظمى وفرنسا، ولازلنا نقص تفاصيل ذلك النصر لأبنائنا وأحفادنا، ليفخروا بقدرة المصريون على سطر فصولاً من نور في تاريخنا الغالي.
Email: [email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى