البدو والحضر
بقلم د – شيرين العدوي
تختلف طبيعة حياة البدو عن حياة الحضر، فحياة البدو غير مستقرة تقوم على التنقل والترحال جريا وراء الكلأ، وتتبعا لمساقط الغيث ، وتعتمد في المقام الأول على رعي الماشية ، وهم لا يفضلون شيئا على حياتهم الرعوية البدوية، ومن ثم كانوا يزدرون الزراعة والصناعة ويحتقرونها؛ إذ كانت حياتهم تقوم على البساطة والحرية التي لا تحد وإن حفت بالمخاطر سواء تمثل ذلك في حياتهم الحربية الدامية القائمة على الإغارة والغزو؛ فقد كان العرب يتربص بعضهم ببعض، ومن ثم لا يكاد يكون هناك حي أو عشيرة بل أسرة إلا وهي واترة أو موتورة.
أما حياة الحضر :
فقد كانت مستقرة تعتمد في كثير من جوانبها على الاشتغال بالزراعة والتجارة. وقد أسسوا قبل الإسلام ممالك ذات مدنية مثل الحميريين في اليمن، والغساسنة في الشام ، واللخميين في العراق. ومن الثابت أن الزراعة عرفت في الجنوب والشرق وواحات الحجاز مثل: يثرب، و خيبر، والطائف ووادي القرى، وعاش أهل مكة على التجارة ، إذ كانت قوافلهم تجوب الصحراء شمالا وجنوبا في طرق معلومة، وكان يصحب هذه القوافل الخفراء، وهم حراس القوافل من العرب حتى لا يتعرض لها أحد بالسلب والنهب، ولعل مما يدعم ذلك ما ورد في كتاب الأغاني في معرض حديثه عن يوم الصفقة من أن باذام عامل كسرى باليمن بعث إلى كسرى عيرا تحمل ثيابا من اليمن، ومسكا وعنبرا، وخرجين فيهما مناطق محلاة، وخفراء تلك العير بنو الجعيد المراديون، فساروا من اليمن لا يعرض لهم أحد حتى إذا كانوا بحمض من بلاد بنى حنظلة بن يربوع وغيرهم أغاروا عليها.
يلاحظ عدم وجود فروق اجتماعية تذكر بين البدو والحضر؛ فالحد الذي يفصل بين فئات العرب الرحل، وبين فئاتها الأخرى التي استقر بها المكان، واطمأن بها المقام ليس واضحا دائما؛ لأن مراتب التطور تدريجية، تبدو فيها الجماعات تارة نصف بدوية، وأخرى نصف حضرية؛ ولأن هؤلاء البدو صهرتهم حياتهم بظروف قاسية، وكونت لهم مجموعة من الخصال تأصلت فيهم، ووجهتهم في حياتهم أنى حلوا وأين ارتحلوا. و الدراسات التي تتناول حياة العرب بعد الإسلام تتحدث عن احتفاظ العرب ببداوتهم، وحرصهم عليها، حتى بعد أن نزلوا الأمصار والمدن؛ فقبيلة الفرزدق- مثلا- وهي قبيلة شريفة نزلت أرض البصرة زمن تأسيسها سنة ١٤ هجرية – ظلت على بداوتها، تنتشر من أرض العراق الأسفل إلى نجد وأطراف اليمامة، ولعل أهم ظاهرة كان لها أثرها الكبير في حياة العرب سلبيا وإيجابيا، بدوا كانوا أم حضرا، تمثلت في العصبية التي أسهمت عوامل كثيرة في إيجادها.
العصبية :
تحدث ابن خلدون في مقدمته حديثا مسهبا عن العصبية ، وشرح كيف تتضح العصبية بصفة خاصة بين أهل البدو الذين يعيشون في بيئة محفوفة بالأخطار، يحتاجون فيها إلى حماية ؛ ومن ثم اشتدت حاجتهم إلى العصبية التي توفر لهم هذه الحماية، و عصبية أخرى تقوم على النسب المشترك ” إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته أهم، وما جعله الله في قلوب عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وأقربائهم موجودة في الطبائع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر. وهناك نوع آخر تحدث عنه ابن خلدون، يقوم على الولاء والحلف فاللحمة الحاصلة من الولاء تقترب من لحمة النسب. هذان الجانبان اللذان يشكلان العصب الأساسي للعصبية القبلية ويمثلان المحور الذي تدور عليه كثير من جوانب الحياة العربية في حقبة طويلة من تاريخها ربما امتدت إلى نهاية العصر الأموي.
في القطرة القادمة سنرى كيف تحققت هذه العصبية ؟
د/شيرين العدوي من كتاب الحياة الاجتماعية في كتاب الأغاني للأصفهاني ص ٣٥- ٣٦ .
ألا تلاحظ معي عزيزي القارئ أن الرافد الثاني من العصبية هو ما يشكل اليوم كل التحالفات والمواءمات السياسية في عصرنا الحديث ؟!
النعرة والنعار بالضم والنعير: الصراخ والصياح في حرب أو شر، والمقصود بها التعصب لذوي الأرحام ونجدتهم والحدب عليهم.
إن تمصير البصرة كان في سنة أربع عشرة من الهجرة قبل الكوفة بستة أشهر في عهد عمر بن الخطاب حين كتب عتبة بن غزوان إليه يستأذنه في تمصيرها، لأن لابد للمسلمين من منزل يحتمون فيه وقت الشتاء، ويلجأون إليه إذا رجعوا من غزواتهم. فكتب عمر إليه أن يختار منزلا قريبا من المراعي والماء وطلب منه أن يكتب إليه بصفته أنظر في ذلك ياقوت: معجم البلدان مجلد ٣ ص ٤٣٠ ، والطبري ج ٣ ص ٥٩٠ ، ابن قتيبة المعارف ص ٥٦٣.