في ذكراك يازايد الخير

 

بقلم الكاتب الإماراتي :أحمد إبراهيم

في حياته .. عرف الخير والاختيار، فاختاره الأخيار، ليُعرف ب: «زايد الخير». وفي مماته .. اختاره الله في أخير الأيام من أخير الشهور، (العشرة الأخيرة من الشهر الفضيل)، فلنسأل الله أن يزيد خيراته ميزان حسناته، آمين يارب العالمين وإنه سميع مجيب.

سلّم على الدنيا مقبلا عليها قبل 88 عاما إذ ولد عام1918، وسلّم على الدنيا مودّعا إياها قبل ثلاث أعوام، إذ توفى عام2004 يوم نعى ديوان الرئاسة (الثلاثاء التاسع عشر من رمضان الموافق (02 نوفمبر (2004) بنبأ وفاته عن عمر يناهز ال 86، وبين السلامين يبدوه رحمه الله اُختير رجل السلام، وأيضا بين السلامين تحمّل الكثير من المعاناة للحفاظ على راية السلام، ومهما كانت الطرق وعرة، بقي تواقا للصلح وسبّاقا للسلام،

وترجم الحلم بالفعل من واقع الاتحاد، وكان يحلم بوحدة الوطن الكبير يسوده السلام، ويجنّبه الظلام، فكما واجه سموه رحمه الله آلاما وجروحا في أعضاء الوطن الكبير والشقاق بين الأشقاء في المنطقة وفي الأقاليم والقارات وهو يسعى الى توسيع رقعة حلمه (الاتحادي) الى الوحدة العربية الشاملة، بدءا بما أراد تطبيقه على اتحاد (تُساعي خليجي) بشمول البحرين وقطر للاتحاد (السباعي الإماراتي).

كذلك واجه سموه مشاكل صحية خلال السنوات الأخيرة في الكثير من أعضاء جسده، حيث أجريت له عملية جراحية في اكتوبر 2003 لاستئصال حصى من المرارة كما أجريت له عملية جراحية في العنق في سبتمبر 1996 قبل ان تزرع له كلية عام 2000، لكنه وكعادته دائما كان سباقاً لعلاج أعضاء الوطن قبل أعضاء البدن.

وتبدو الأقدار أيضا ارادته رجل السلام إذ ولد مع نهاية الحرب العالمية الأولى في الجزيرة المطلة على الخليج العربي (أبوظبي) والتي أطلق عليها هذا الاسم كما تقول أغلب الروايات بسبب كثرة الظباء فيها .. لكن في حين كانت تدور حلقات لعبة الضباء في المنطقة على البقاء للأقوى، كان على الجانب الآخر من الوادي ومن نفس العام قد ولد نيلسون مانديلا وجمال عبدالناصر وتشاوشيسكو وستالين.

إذاً كان عاما أنجب رجالا غيروا مجرى التاريخ وغيروا مجرى شعوبهم وأوطانهم ولكن لم تجتمع فيهم تلك الصفات التي امتاز بها زايد في حياته الذي كان يمتطي صهوة جواده ليقهر الصحراء من جانب، ويعود من جانب آخر يفترش الرمال ليسجد لله، ويساوي الفارس بالراكب، والراكب بالجالس، والجالس بالنائم، والنائم بالقعيد والقعيد بالمحتضر في آن واحد.

نعم انه كان صادقا متواضعا بين أبنائه وأبناء وطنه ومتساويا بين أبناء إخوانه وجيرانه بالجود والكرم والحكمة والفراسة والحنكة والبطولة والشجاعة، ولكن بلهجة سلام دائم وبعناق تسامح قائم، كان يرتقي قمم الجبال والرمال بكبرياء وشموخ، ثم يعود ويعرج لسهول الوديان بتواضع ودموع،

وتحدّى ان يتجاوز سياج «حظيرة» الظباء عندما بدأ يتحدث في السابعة من عمره في مجلس والده، وفي الثامنة بدأ بحفظ القرآن الكريم، وتلقى تعليمه وحين توفي والده 1927 انتقل إلى واحة العين التي قضى فيها السنوات الأولى من فجر شبابه ومن جبالها وتلالها استمد خلقه وفكره وطموحه متنقلا بين السواحل والشطآن والجزر والبرور، فصقلته حياة الصحراء وجعلته فارسا من فرسانها الشجعان يجيد ركوب الخيل والجمال واستحوذت عليه هواية القنص التي تثير روح الإقدام،

فجمع بين أخلاقيات البدو وصلابة القاضي وقوة الصياد وحكمة القائد وحساسية الشاعر، وكان يشاطر الذراع مواطنيه ويشاركهم حفر الآبار وتحسين مياه الافلاج وإنشاء المباني والطرقات، والجلوس معهم معيشتهم على السواحل والأرصفة والخيم بقاموس لا مفردات فيه للغطرسة والتكبر،

وبعد ان حفر الآبار بيده لأبناء وطنه وامّن لهم الماء تحت الرمال والاخضرار فوق الرمال، بدأ يلامس بإصبعه مياه شطآن الخليج ويسائل: (عما يوجد ما وراء البحار..؟) وأجاب على سؤاله بنفسه عام1953 برحلته الأولى إلى بريطانيا ثم الولايات المتحدة وسويسرا ولبنان والعراق ومصر وسوريا وإيران والهند وباكستان وفرنسا، كان يذهب بثوبه العربي البسيط ليعود بما يزيد بلاده التقدم والنهوض.

وأضاءت شمعة الأقدار الأولى لدولة الإمارات في السادس من أغسطس عام 1966 حين تولى مقاليد الحكم في إمارة ابوظبي التي شهدت نهضة شاملة ثم تتطلع بفكره الوحدوي إلى اخوانه بالمنطقة،انها أول دعوة رفعت بين الامة العربية، ولكنها الوحيدة التي طبّقت ولعلها الأخيرة. (فما أكثرها رفعت وما اقلها طبقت).

سعى ـ وكما اسلفنا ـ لاتحاد (تُساعي) بشمول قطر والبحرين، لكنه توفق بسُباعية الاتحاد دون تُساعيته، حيث اجرى اتصالاته مع المرحوم الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي في فبراير 1968 وتم عقد اجتماع بينهما في منطقة السمحة (سيح الشعيب) التي تقع بين ابوظبي ودبي، وأسفر الاجتماع عن الإعلان عن تراصّ صفوف من الدرر والدانات، برموزها الهجائية التي عرفها التاريخ

وستبقى رمزا خالدا تقتديها الامة وتتغنى لأوتارها السيمفونية الألفبائية: (أبوظبي يا أبا الاتحاد، دبي يا (دانة) الاتحاد، الشارقة يا (إشراقات) الاتحاد، الفجيرة، يا فجر الينابيع وأنهار الاتحاد، ورأس الخيمة، يا خيمة اتحاد العروبة والضيافة، وعجمان يا منجم المال والعلم وجامعات الاتحاد، وأم القيوين يا من احتضنت بقوتي البحرية والبرية للاتحاد، فأبت هذه الحروف إلا ان تصطف بجوار بعضها اصطفاف اللألئ والدرر لتعلن رسميا في الثاني من ديسمبر 1971 عن محار تحتضن تلك الدرر اسمه دولة الإمارات العربية المتحدة.

لكن طموح زايد الوحدوي كان يفوق تلك الدانات والدرر المحلية عددا وعُدة، إذ كان يحلم ان يعيد لسجل الكفاح العربي صفحات مشرقة بإضافة أبجديات وسمفونيات أخرى وذلك بإيمانه العميق بالوحدة الشاملة، فعمل مع اخوانه قادة دول الخليج العربي على تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربي، فكانت أيضا الشمعة الأولى لمجلس التعاون الخليجي موقعها مدينة ابوظبي عاصمة اتحاد الإمارات التي احتضنت أول قمة للمجلس في 25 فبراير 1981.

في مسيرته القيادية والوحدوية عمل زايد بكل جهد وبصفات القيادة وأدرك قواعد لعبة التوازنات القبلية وأصول حل الخلافات الناشئة بين الأطراف المختلفين فيما بينهم. وأيقن بحكمته أن صراع البقاء سيبقى هاجس جميع القبائل وان النزاعات الناجمة عن ذلك لن تنتهي حتى يتغير المحيط والوضع العام.

ويضع زايد رجل السلام أول بصمة السلام على الخريطة بحل النزاع حول منطقة البريمي الحدودية فنظر إليه الناس باحترام وإعجاب شديدين، وهو يواصل البصمة ذاتها في كل النزاعات والشقاقات بين الأشقاء بُدءا بدوره في وقف الحرب العراقية الإيرانية، وإعادة العلاقات بين الدول العربية،

ومرورا بمواقفه تجاه الحربين الخليجية الأولى والثانية ان لم تكن الأخيرة عندما طالب أشقائه بالصلح دون إراقة مزيد من دماء الأشقاء العرب والمسلمين، وكانت آخر تلك الدعوات نداءه لصدام حسين بالتخلي عن الرئاسة بسلم وسلام ولين ينقذ نفسه وبلده، فأبى الأخير إلا ان يحرق الأخضر واليابس، وعلى العراق السلام.

ولزايد الخير لمساته بالقصب السبق على المساحات الخضراء وكذلك الأراضي الزراعية فباتت المحاصيل الزراعية للدولة تعم الأسواق وتنافس بجودتها المنتجات المستوردة. وتذكر وزارة الزراعة والثروة السمكية على موقعها على شبكة الانترنت قبل أعوام أن رقعة المساحات الخضراء وصلت نحو 2,1 مليون دونم بينما وصل إجمالي مساحة الأراضي الزراعية إلى ما يقارب 617 ألف دونم من بينها 591 ألف دونم مخصصة لزراعة النخيل.

ولم يكتف بصفة (الفارس الذي قهر الصحراء) وإنما استمد بمواقفه السياسية والوطنية خارج الحدود، فكان من أكثر الداعمين لحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره. كما اهتم بمساعدة لبنان من خلال مبادرته بنزع الألغام التي خلفها الاحتلال الإسرائيلي للجنوب وعلى نفقته الخاصة وكذلك اهتم بأن تقوم الإمارات بدور فاعل في عملية إعادة بناء لبنان بعد الحرب فقدمت الدولة المساعدات المالية والهبات والقروض للمشاريع الحيوية والتنموية،

وكما الأمر في لبنان كان الأمر كذلك في اليمن والبوسنة حيث شاركت القوات المسلحة في إطار القوات المتعددة الجنسيات. ولا ينسى أحد المبادرة الخاصة التي قام بها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في إعادة بناء مخيم جنين الذي دمرته قوات الاحتلال الإسرائيلي وأيضا على نفقته الخاصة.

انها لبنات زايد الخير، لازالت تتعالى عليها لبنة تلو لبنة ومن خلال خير خلف لخير سلف، وما هذا الشبل إلا من ذلك الأسد وما خير اليوم لخليفة بن زايد ومحمد بن راشد حفظهما الله إلا من خير ذلك الأمس لزايد بن سلطان وراشد بن سعيد رحمهما الله وتغمّدهما بفسيح جنانه. وما أدق تعبير اختاره «البيان» يوم وفاته: «حكيم الأمة في ذمّة الله»، ولي شرف ان اضيف مشكورا وفي «البيان» نفسه هذه الكلمات على ذكراه:

زايد الخير.. يا ترنيمة غنّيت للسماء بالدعاء.. فأمطرتك السماء بالعطاء رقيت للعلى بين القيادات بشموخ و تآزر.. دون ان تنسى النزول للأحفاد والأمجاد بخضوع وتواضع فطوبى لزايد زاد خيره وهو حيّ.. وهنيئا لزايد أنعمه الله بغفرانه وخيراته وهو ميّت. ونسأل الله ان يجعل هذا البلد آمنا ويحفظ حكامه وأبناءه وضيوفه. انه لشهر الكريم.. آمين يارب العالمين. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى