العلاقة بين حرب غزة وتطبيق مبادرة الحضارة العالمية للرئيس الصينى “شى جين بينغ”
تحليل الدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية- أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
شرع الحزب الشيوعي الحاكم فى الصين إلى الترويج للعلاقة بين حرب غزة الأخيرة فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، ومبادرة الرئيس الصينى “شى جين بينغ” للحضارة العالمية، فى مواجهة سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الدول الغربية على النظام العالمي والقيم العالمية، وتبنيهم مفاهيم مثل “تفوق الديمقراطية الغربية” و”صراع الحضارات” و”الحرب الباردة الجديدة”، وغيرها من تلك المفاهيم الضيقة فى مواجهة الصين ودول الجنوب العالمى. مع السعى الأمريكى والغربى لعودة عصر “التنافس الأيديولوجى” عبر تنافس القيم الليبرالية الغربية في مواجهة الشيوعية الصينية، عبر الدعوة الأمريكية الصريحة لبناء “تحالف قيمي” فى مواجهة الصين، وخلق مواجهات أيديولوجية، والترويج لشعارات “الديمقراطية ضد الإستبدادية”، وهو ما يؤثر على الحوار الحضاري بين مختلف دول وثقافات العالم، مما يشكل تهديد للسلام والتنمية حول العالم.
كما بدأ الأكاديميون الغرب والأمريكان فى الترويج لظواهر ومفاهيم ترسخ التنافس والصراع الأيديولوجى والحضارى في مواجهة الصين بالأساس، مثل ترويجهم لما يعرف بـ “ظاهرة البجعة السوداء”، والتي تشير إلى سلسلة من الأحداث غير المتوقعة في الأوساط المالية، والتى تؤثر بالسلب على العالم مع عدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين على إنقاذ العالم خاصةً النامى من براثن إنهيار الإقتصاديات الوطنية لعدد من الدول الفقيرة والنامية، بغير السيطرة عليها مادياً وإقتصادياً وسياسياً مع التحكم في مقدراتها. كما بدأ الترويج الغربى كذلك لظاهرة “وحيد القرن الرمادي”، وهى تلك الظاهرة التي تشير إلى المخاطر البطيئة التي تبدو تافهة ولا تمثل تهديداً من وجهة نظر الغرب، وبالتالي عدم الإلتفات أو مساعدة أصحابها.
لذا جاء الرد الصينى الحاسم في مواجهة دعوات الغرب والولايات المتحدة الأمريكية للعودة إلى عصر “الحرب الباردة” مع الإتحاد السوفيتى، لكن بثوب جديد وشعارات مختلفة، عبر الحرص الصينى على طرح المزيد من مفاهيم وشعارات (التوجيه الأيديولوجي والتنوير لمستقبل المجتمع البشري). من خلال طرح مبادرات ترويج للحوار الحضارى والثقافى والتنموى العالمى، كمبادرات (التنمية العالمية ومبادرة الأمن العالمي إلى مبادرة الحضارة العالمية) للرئيس “شى جين بينغ”. مع التأكيد من خلالها على رغبة الصين فى تقديم نفسها كقوة بناءة للسلام العالمي، ومساهمة في التنمية العالمية، ومدافعة عن النظام الدولي، ومعززة لتقدم الحضارة الإنسانية، وساعية إلى تحقيق تقدم الإنسان والتناغم في العالم. مع إنتقاد الصين لمفاهيم الحضارة الغربية في الديمقراطية وحقوق الإنسان وثقافة السلام والحوار، وغيرها. بإعتبارها من وجهة نظر الصين ليست شكلاً عالمياً لتطور الحضارة الإنسانية، بل إن التبادل والتعلم بين مختلف الحضارات، هو ما يشكل من وجهة نظر بكين، قوة دافعة قوية لتعزيز عملية التحديث في المجتمع البشري. وهنا يركز الحزب الشيوعي الصيني على التنمية المشتركة للبشرية، إستناداً إلىإلى المفهوم الصينى المتمحور حول (رابطة المصير المشترك للبشرية). عبر التأكيد على نشر مبادرة الصين للحضارة العالمية، والترويج فى مختلف المنتديات والمؤتمرات الدولية، لموقف الصين المتمثل في الدفاع عن التنوع والمساواة والتسامح والإحترام والتعاون والإنسجام والتعلم تجاه مختلف الحضارات العالمية.
وتعد (مبادرة الحضارة العالمية) هي المبادرة الثالثة التي قدمها الرئيس الصينى “شي جين بينغ” أمام المجتمع الدولي، بجانب (مبادرة التنمية العالمية) التي طرحها الرئيس “شى” في المناقشة العامة للدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في عام ٢٠٢١، متزامنة مع (مبادرة الأمن العالمى) التي طرحها الرئيس “شى” خلال جلسة إفتتاح الإجتماع السنوي لمنتدى بوآو الآسيوي في عام ٢٠٢٢. وهنا تعد تلك المبادرات الرئيسية الثلاث للرئيس “شى جين بينغ”، بمثابة ثلاث ركائز صلبة تدعم (رابطة المصير المشترك للبشرية)، وفقاً لرؤية الرئيس الصينى “شى جين بينغ” والحزب الشيوعى الحاكم فى الصين.
وتأتى أهمية “مبادرة الحضارة العالمية”، والتى أطلقها الرئيس “شى جين بينغ” في ١٥ مارس ٢٠٢٣، وذلك خلال الحوار الرفيع المستوى بين الحزب الشيوعي الصيني والأحزاب السياسية العالمية في بكين. كما شرح الرئيس “شي” مفهوم الصين المتعلق بالحضارة العالمية في عدة مناسبات مختلفة، مثل: (مؤتمر حوار الحضارات الآسيوية- منتدى بوآو الآسيوى- قمة الرؤساء التنفيذيين لمنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (أبيك)، وغيرها.
فقد أنتهز الرئيس الصينى “شي جين بينغ”، بصفته الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ورئيس الصين، تلك الفرصة لإطلاق مبادرة “الحضارة العالمية”، تحت شعار “يداً بيد على طريق التحديث”. وتأتى أهم الخطوط العريضة التي تتمحور حولها مبادرة الحضارة العالمية للصين، حول: دعوة الصين للعالم لتعميق الحوار والتبادل بين الحضارات المختلفة من خلال التسامح والتعلم المتبادل وتقديم الحكمة والحلول الصينية المبتكرة، من أجل تعزيز مستوى أعلى من التعاون الدولي.
حيث تروج مبادرة الحضارة العالمية للرئيس “شى جين بينغ”، حول ضرورة التعاون المشترك في ظل تشابك التحديات والأزمات المتعددة، فينبغي لمختلف البلدان والحضارات أن تعمل على نحو عاجل معاً للتعامل مع التحديات العالمية المتعلقة بمستقبل ومصير البشرية جمعاء. مع تأكيد الرئيس الصيني “شى جين بينغ” خلال شرحه لمبادرته دولياً وأممياً عن (الحضارة العالمية)، بأن مبادرته تهدف لإرساء أسس التسامح والتعايش والتبادلات والتعلم المتبادل بين الحضارات المختلفة كلها، وهى أمور تلعب دوراً لا غنى عنه في دفع عملية تحديث البشرية وإزدهار حديقة الحضارة العالمية، نظراً لأن مصير جميع الدول مرتبط إرتباطاً وثيقاً في الوقت الراهن.
وعملت الصين على الترويج لمبادرتها للحضارة العالمية، عبر مبعوثها الخاص للسلام في الشرق الأوسط، حيث بدأ تعيين الصين مبعوثاً خاصاً لها إلى الشرق الأوسط منذ العام ٢٠١٩، هو الدبلوماسي الصيني “تشاي جون”، مع الترويج الصينى الدائم من خلاله، لأهمية مبادرة الحضارة العالمية لكافة بلدان المنطقة العربية والشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يعكس إدراك الصين للدور المطلوب منها في العمل على تخفيف التوتر فى منطقة الشرق الأوسط، والتوسط لنزع فتيل أزماته المستحكمة منذ عقود، كتحقيق التقارب السعودى الإيرانى، وحل القضية الفلسطينية، وطرح العديد من المبادرات الصينية بعد حرب غزة الأخيرة أو عملية “طوفان الأقصى” منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، بهدف إعادة تشكيل الحضارة العالمية والإنسانية وتكاملها، عبر الدعوة للحوار الحضارى والثقافى والتنموى، ونبذ العنف والتطرف فى قطاع غزة، وإستضافة الصين لوفد من حركة حماس، لبحث الوضع وتقديم حلول مبتكرة برعاية الصين.
ويعكس الموقف الصيني من التطورات الحاصلة في فلسطين ما بعد عملية “طوفان الأقصى” إدراكاً من الصين لجذور الأزمة، وإصراراً منها على إعادة العالم إلى النظر لها في شمولها، وليس الإقتصار على الأعراض والأحداث الجانبية والتفصيلية، عبر لغة التحاور والتشاور الإنسانى والحضارى المشترك، كضمانة للوصول إلى حلول مبتكرة وفورية لحل الأزمة الراهنة في قطاع غزة، ولوضع حلول شاملة وجذرية وحضارية للقضية الفلسطينية برمتها، من وجهة نظر صينية.
لذا جاءت الرؤية الصينية المنفتحة لطرح مبادرة “إعادة إعمار غزة”، وربطها بمبادرة الحزام والطريق الصينية، بإعتبارها التطبيق العملي لمفهوم ومبادرة “الحضارة العالمية”، والتى أصبحت “تصميماً جديداً رفيع المستوى للإصلاح والإنفتاح للصين، وتعد بمثابة إنفتاح على مستوى أعلى ويتردد صداها قوياً مع السعي لتحقيق تنمية عالية الجودة”. وهنا تذهب مبادرة الحزام والطريق إلى ما هو أبعد من البنية التحتية. فهى بمثابة حل صيني لقضايا التنمية العالمية وتحقيق التحاور والتشاور الإنسانى والحضارى العالمى، وذلك وفقاً للكتاب الصينى الأبيض حول (تنمية مبادرة الحزام والطريق)، وربطها بمبادرة الحضارة العالمية للصين، عبر الإعتراف الصينى بأن العجز الحالي في السلام والتنمية والحوكمة، يمثل تحدياً هائلاً للبشرية، مما يوفر فرصة لمبادرة الحزام والطريق لتلعب دوراً في تحقيق المزيد من التقارب الحضارى العالمى، بما يصب بالأساس فى مصلحة الفلسطينيين وقضيتهم. وهنا جاء تأكيد الرئيس الصيني “شى جين بينغ”، بأنه: “مثلما لا يمكن للصين أن تتطور بمعزل عن العالم، فإن العالم يحتاج إلى الصين من أجل تنميته”.
وفي إعتقادى فإن إقتراح الرئيس”شى جين بينغ” لمبادرة الحزام والطريق كان مدفوعاً في المقام الأول بحرصه على مشاركة تجارب التنمية الصينية مع بقية العالم، فى إطار نوع من التواصل الحضاري المشترك بين الجميع. وكما ذكر الرئيس “شي”، فإن مسعى مبادرة الحزام والطريق “لا يعني إعادة إختراع العجلة”. بدلاً من ذلك، يهدف إلى تكامل الإستراتيجيات التنموية للدول المعنية عن طريق الإستفادة من نقاط قوتها النسبية. مع تأكيد الرئيس “شي” فى الوقت ذاته، بأن: “مبادرة الحزام والطريق التي طرحها تهدف إلى تحقيق تنمية مشتركة ومربحة للجميع”.
ومن هنا نفهم، مدى حرص الجانب الصينى والرئيس”شى جين بينغ” بصفته الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعى الحاكم فى الصين، على حل القضية الفلسطينية ووقف إطلاق النار فى قطاع غزة، ووضع شروط عادلة لكافة الأطراف لوقف تلك الحرب الدائرة عبر التحاور والتشاور الإنسانى والحضارى، مع تعهد الصينيين بدمج الفلسطينيين فى مبادرتهم للحزام والطريق، والتى تتماشى مع إلتزام الرئيس “شى جين بينغ” بتحقيق المزيد من الإنفتاح الثقافى والحضارى، فقد لعبت مبادرة الصين للحزام والطريق، دوراً حيوياً في ربط الإحتياجات التنموية الأكثر إلحاحاً للعالم بما تتفوق فيه الصين، من بناء الطرق والجسور من أجل مزيد من الترابط الحضارى والثقافى والإنسانى العالمى، وهو ما يحرص الرئيس الصينى “شى جين بينغ” والمندوب الصينى الدائم للسلام في منطقة الشرق الأوسط على تحقيقه في مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته، بعيداً عن أنانية الغرب وسياسات الهيمنة وفرض الشروط الأمريكية، بما يوفر وفقاً لرؤية الرئيس “شى” فهم جيد لإحتياجات الدول النامية، ويكون بمثابة حل عادل ومربح أمام الفلسطينيين وأهمية الإعتراف بهم أممياً، عبر إدماج فلسطين فى قضايا الحوار الحضاري والإنساني العالمى برعاية الصين كقائد لدول الجنوب العالمى.