طريق (الحرير الرقمى الصينى كجزء من الإستراتيجية الوطنية الصينية) فى تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى

 

تحليل الدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية- أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف

جاء إعلان الرئيس الصينى “شى جين بينغ” فى أكتوبر ٢٠٢٣، خلال كلمته الرئيسية التى ألقاها فى مراسم إفتتاح (الدورة الثالثة لمنتدى الحزام والطريق للتعاون الدولى فى بكين)، بأن الصين تعتزم إطلاق “المبادرة العالمية لحوكمة الذكاء الإصطناعى”، والتى تمثل نهجاً صينياً بناءاً لمواجهة الشواغل العالمية المتعلقة بتنمية الذكاء الإصطناعى وحوكمته، وترسم خططاً صينية جديدة للمناقشات الدولية ووضع القواعد الجديدة المنظمة فى هذا المجال. وخلال كلمته فى (مؤتمر الدورتين أو الجلستين) الذى يجمع بين غرفتى البرلمان فى الصين، وهما (مجلس نواب الشعب الصينى والمجلس الإستشارى السياسى للشعب الصينى) فى مارس ٢٠٢٤، جاء وصف رئيس الوزراء الصينى “لى تشيانغ” لتكنولوجيا الذكاء الإصطناعى فى الصين، بأنها باتت محرك مهم “للقوى الإنتاجية الجديدة” داخل الدولة الصينية. كما جاءت تأكيدات “لى تشجيانغ” التى حظيت بتغطيات واسعة فى التلفزيون الرسمى الصين وكافة الصحف المقربة من الحزب الشيوعى الحاكم فى بكين، بأن “الصين ستعجل برفع مستويات الحوسبة وتعزيز التطور فى مجال الخوارزميات وإستخدام البيانات، كى تتفوق فى السباق فى مواجهة الحكومات العالمية للسير مع طفرة الذكاء الاصطناعى”. كما جاء إستخدام الرئيس الصينى”شى جين بينغ” لمصطلح “القوى الإنتاجية الجديدة” فى سبتمبر ٢٠٢٣، عند تسليطه الضوء على الحاجة إلى وضع نموذج جديد للتنمية الإقتصادية يستند إلى الإبتكار فى القطاعات المتقدمة كتكنولوجيا الذكاء الإصطناعى المتطور.

ونجد أنه بعد إطلاق مبادرة الحزام والطريق الصينية فى عام ٢٠١٣، إنقسمت بلدان العالم، إلى دول مرتبطة بالصين إقتصادياً عبر طريق الحرير الصينى الرقمى، عبر (التزود ببنى تحتية صينية بدل إعتماد التكنولوجيا الغربية المسيطر عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وشركاتها الدولية). وفى الوقت الحالى، بات طموح الصين يتمحور حول “طريق حرير رقمى جديد” يربط العالم معاً بطرق أرضية وبحرية ورقمية، ويسمح للصين بأن تنشر نمطها السياسى والإقتصادى عالمياً. ومن هنا، حدثت تغيرات جديدة نتيجة المنافسة الصينية الأمريكية فى مجال البنى التحتية الرقمية، لدرجة أن الرئيس الصينى (شى جين بينغ) أعلن حالياً من ٦٠ مليار دولار لتكوين (علماء أفارقة لدعم النمو التكنولوجى المرتبط بالصين). فالتنافس الصينى – الأمريكى فى مجال الذكاء الإصطناعى قد قسم العالم لقسمين بعد إنتشار جائحة كورونا أو (كوفيد-١٩)، فقد جاء الوباء بمثابة إختبار مبكر للكشف عن قدرة كل دولة على تعبئة الذكاء الإصطناعى على نطاق واسع إستجابة لتهديد الأمن القومى، وهو ما تفوقت الصين فيه عالمياً وعلى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.

كما زاد الطموح الصينى بعد إنتشار جائحة كورونا على التفوق فى مجال الذكاء الاصطناعى عالمياً وبناء طريق حرير صينى رقمى جديد ونشره فى كافة الدول المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق الصينية، وهو ما إنعكس بشكل واضح فى مجمل خطابات الرئيس الصينى (شى جين بينغ)، من خلال تركيز الرفيق “شى” على إستراتيجية شفافة، تقوم على: إستخدام الذكاء الإصطناعى بشكل مزدوج، من أجل ضبط المواطنين داخلياً فى الصين، ثم التحول الصينى الرقمى عالمياً كى تكون القوة الأولى فى العالم فى نفس الوقت، ونشر تكنولوجيتها الرقمية عبر الدول التى تمر بها مبادرة الحزام والطريق الصينية عالمياً. وتهدف أجندة الصين وفق (الخطة الخمسية الرابعة عشر) فى أكتوبر ٢٠٢٠، بأن تهدف إلى إنتاج أبطال وخبراء عالميين تقنيين فى مجال الذكاء الإصطناعى بحلول عام ٢٠٢٥، وأن تطور الصين تقنياتها فى مجال إستخراج البيانات والمعالجات الدقيقة الجديدة. ومن هنا، أصبحت الصين الآن قائدة فى مجالات البحث والتطوير العلمى، وتسجل حالياً براءات إختراع أكثر من الولايات المتحدة نفسها. وبعد إنطلاق طريق الحرير الصينى، نجحت الحكومة الصينية فى نشر بنيتها التحتية التكنولوجية على طول الخطوط الجيوسياسية، فقد أقامت الصين “جدار حماية كبير” سمح للحزب الشيوعى الحاكم بالسيطرة على شبكة الإنترنت بأكملها، لأسباب سياسية بالأساس لمنع تجنيد الإرهابيين لمواطنين صينيين، وبعض البلدان القريبة من الصين كباكستان، قامت بإغلاق أجزاء من الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) فى البلاد على أشخاص متهمين بكونهم “إرهابييين”.

لقد أصبحت الصين اليوم منافساً تكنولوجياً قوياً للولايات المتحدة الأمريكية، فهى منظمة ومجهزة بالموارد، فضلاً عن التصميم الصينى على الفوز بهذه المنافسة التكنولوجية وإعادة تشكيل النظام العالمى من جديد لخدمة مصالحها ومصالح الدول النامية أو عالم الجنوب، كما تسميه الصين. لذا يعد الذكاء الاصطناعى، وغيره من التكنولوجيات الناشئة أمراً محورياً فى الجهود التي تبذلها الصين لتوسيع نفوذها العالمى، وتجاوز القوة الإقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية. ومن أجل تأمين الإستقرار المحلى على الجبهة الداخلية، تعمل الصين على تنفيذ خطة منهجية موجهة مركزياً، لإستخلاص المعلومات حول الذكاء الاصطناعى من الخارج من خلال تقنيات التجسس أو التتبع والمراقبة والرصد، مع توظيف المواهب ونقل التكنولوجيا والإستثمارات اللازمة لذلك. والنتيجة الآن، وبعد زيادة الحرب التجارية الأمريكية التى تشنها ضد الصين، ومحاربتها شركة هواوى الصينية بدعوى علاقتها بالجيش الصينى أو بالحزب الشيوعى الصينى، أدى ذلك إلى تجزئة الشبكة الرقمية الآن إلى عدة كيانات جيوسياسية ما بين دول نامية وأفريقية تستخدم التكنولوجيا الصينية ودول غربية تستخدم تكنولوجيا متقدمة أخرى.

وبعد إعلان الصين عن إستراتيجية مبادرة الحزام والطريق العالمية، لعبت (شركة هواوى الصينية)، فضلاً عن أكبر أربع شركات تكنولوجية صينية، وهى: (بايدو، على بابا، تنسنت، شاومى) فى دعم المشروع الصينى العالمى للحزام والطريق الرقمى، كى تصبح الصين هى القوة الأولى رقمياً حول العالم بحلول عام ٢٠٤٩. فسيطرة الصين على تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى ونشرها عبر مبادرة الحزام والطريق الرقمى، ليس مجرد قضية إقتصادية فقط، بل تستخدمه الصين الآن بهدف إعادة إحياء طريق الحرير القديم وربط الصين رقمياً بالعالم كله، وهو نفسه ما أشار إليه أهم كتاب عن تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى وطريق الحرير الرقمى للصين، بعنوان: “هل يقتل الذكاء الإصطناعى الديمقراطية؟”، وخلص هذا الكتاب بأن “التكنولوجيا المتقدمة المرتبطة بالصين قادرة على نشر الأفكار السياسية الصينية فى مواجهة تلك الديمقراطية الغربية والأوروبية”.

وفى شهر يوليو ٢٠٢٣، حذر (مركز الأبحاث التابع لمركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة) فى الولايات المتحدة الأمريكية، من إنفراد الصين بتقنيات مهمة تخص الذكاء الإصطناعى، ورفضها مشاركتها مع منافسيها، مما يؤثر على الصناعة حول العالم. كما جاءت إتهامات منشورة لباحثون من شركة “مايكروسوفت” الأمريكية، يوم الخميس ٧ سبتمبر ٢٠٢٣، بأنهم إكتشفوا ما يعتقدون أنها شبكة من الحسابات المزيفة على وسائل التواصل الإجتماعى تسيطر عليها الصين، وتسعى من خلالها الصين للتأثير على الناخبين الأمريكيين، بإستخدام تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى المتقدم. وهو ما رد عليه المتحدث بإسم السفارة الصينية فى واشنطن، بأن تلك الاتهامات الموجهة لبلاده بأنها تستخدم الذكاء الإصطناعى، لإنشاء حسابات مزيفة ووهمية على وسائل التواصل الإجتماعى للتأثير على مجرى الإنتخابات الأمريكية، لهى محض كذب وإفتراء و “مليئة بالتحيز والتكهنات الخبيثة”، وأن الصين تدعو إلى الإستخدام الآمن للذكاء الإصطناعى.

ومن أجل تحقيق حلم التفوق على الصين فى مجال الذكاء الإصطناعى، أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبى مشروع (مجلس التجارة والتكنولوجيا)، والذى تم إطلاقه حديثاً كمشروع أمريكى أوروبى مشترك، والذى يعكس دعوة (لجنة الأمن القومى الأمريكى للذكاء الإصطناعى، للحوار الإستراتيجى بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، حول التكنولوجيات الناشئة)، والذى يعد بمثابة آلية أمريكية أوروبية جديدة لمواجهة الصين تكنولوجياً. كما جاءت إستضافة (لجنة الأمن القومى الأمريكى المعنية بالذكاء الإصطناعى) فى ١٣ يوليو ٢٠٢١، للقمة العالمية للتكنولوجيا الناشئة، والتى عرضت أهم المميزات النسبية، التى تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية وشبكة حلفاؤها فى مجال تقنيات الذكاء الإصطناعى فى مختلف أنحاء العالم، من أجل وضع خطة أمريكية محكمة للتفوق على القيم الشيوعية للصين فى مواجهة الديمقراطيات الأمريكية والغربية، عبر التنسيق مع شبكة واسعة من التحالفات بين الدول الديمقراطية، والمتأصلة في القيم المشتركة وإحترام سيادة القانون والإعتراف بحقوق الإنسان الأساسية، وفقاً للخطة المتصورة أمريكياً خلال المؤتمر الذى إستضافته (لجنة الأمن القومى الأمريكى المعنية بالذكاء الاصطناعى) فى ٢٠٢١.

وبناءاً على فهمنا السابق لهذا التنافس التكنولوجى الواضح بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين رقمياً، ومحاولة الصين إنجاح مشروعها للحزام والطريق رقمياً، عبر ربط كافة البلدان رقمياً وتكنولوجياً بالصين بإستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعى المتقدم، والتى تعتبرها الصين فى إطار الجهود النشطة التى تبذلها الدولة الصينية لتعزيز (رؤية مجتمع مصير مشترك للبشرية ومبادرة التنمية العالمية ومبادرة الأمن العالمي ومبادرة الحضارة العالمية) التى أطلقهم الرئيس الصينى “شى جين بينغ”. بالنظر لكون الذكاء الإصطناعى يمثل مجالاً جديداً للتنمية البشرية، يقدم فرصاً كبيرة، وتصاحبه فى الوقت ذاته مخاطر وتحديات يصعب التنبؤ بها وتتطلب إستجابة عالمية، لذا بات التنافس حوله محموماً رقمياً بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها فى مواجهة الصين ودول مبادرة الحزام والطريق الصينية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى