ملاحة تحت التهديد.. كيف تحول البحر الأحمر إلى منطقة حرب خطيرة؟
استهدفت الهجمات السفن القديمة مؤخراً حيث شرعت السفن الحديثة في الإبحار في مسارات أخرى
يُظهر تحليل “بلومبرغ” أن سفينة الشحن المملوكة للمملكة المتحدة -والتي تبحر في محيطات العالم منذ عام 1997- أنها ليست السفينة القديمة الوحيدة التي ما تزال تمر عبر البحر الأحمر. ومع توجه حجم كبير من حركة الملاحة حول أفريقيا، فإن الناقلات وسفن الشحن التي ما تزال تحاول الإبحار عبر ما تحول إلى منطقة حرب قبالة ساحل اليمن، تتعرض لمخاطر مرتفعة.
يعد عمر السفينة والتغطية التأمينية ضد حدوث مخاطر مثل تسرب النفط وحوادث الاصطدام (المعروفة باسم تأمين الحماية والتعويض) طريقتين من عدة وسائل لتحديد جودة السفينة. فحصت “بلومبرغ” هذه العوامل لعينة مكونة من نحو 10 آلاف سفينة تجارية عبرت البحر الأحمر أو رأس الرجاء الصالح في الفترة ما بين أول ديسمبر 2023 و10 مارس 2024.
السفن التي ما تزال تقوم برحلات محفوفة بالمخاطر صوب قناة السويس، من المرجح أن تكون أقدم ولديها معلومات تأمينية غير معروفة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. كما أنها أكثر عرضة للخطر مقارنة بالسفن التي تختار الطريق الأكثر أماناً على طول الطرف الجنوبي لأفريقيا.
يظهر التحليل زيادة في عدد السفن العابرة للبحر الأحمر التي يزيد عمرها عن المتوسط العالمي البالغ 14 عاماً والتي لا يمكن تتبع المعلومات التأمينية لديها، على الرغم من انخفاض العدد الإجمالي للسفن.
الحوثيون يستغلون أهمية البحر الأحمر
يعد البحر الأحمر ممراً حيوياً للتجارة البحرية العالمية، وهي حقيقة استغلها المتمردون الحوثيون في اليمن من خلال منع العبور ثم استهداف النقل البحري العالمي بالصواريخ منذ نوفمبر 2023.
بدأ تطبيق هذه الاستراتيجية احتجاجاً على الغزو البري الإسرائيلي في غزة، وتُستهدف على وجه التحديد السفن المتجهة إلى إسرائيل. في 19 نوفمبر، اختطفت الجماعة المدعومة من إيران سفينة “غالاكسي ليدر” التي تحمل سيارات على متنها، ويمتلكها رجل الأعمال الإسرائيلي رامي أونجار. اتسع نطاق الهجمات منذ ذلك الحين ليشمل السفن المرتبطة بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة بعد أن شنت الدولتان غارات جوية على الحوثيين.
واليوم، يتعين على السفن عبور مضيق باب المندب الضيق بالقرب من ساحل اليمن إذا أرادت الإبحار من آسيا إلى قناة السويس في مصر، والتي يمر عبرها 12% من التجارة البحرية العالمية. وقد أدت الهجمات إلى انخفاض عدد الرحلات عبر تلك المنطقة، وارتفاع عدد الرحلات حول أفريقيا، الأمر الذي يصب في صالح الموانئ القريبة.
وقال باولو داميكو، الرئيس التنفيذي لشركة ناقلات النفط “داميكو إنترناشونال شيبينغ” (d’Amico International Shipping) في مؤتمر عبر الهاتف لإعلان نتائج الأعمال هذا الشهر إن “جميع أصحاب شركات الشحن المشهورة يتجنبون عبور البحر الأحمر وقناة السويس”.
ما يحدث هنا (في البحر الأحمر) يعاكس الوضع في رأس الرجاء الصالح، الذي يشهد زيادة كبيرة في حركة الملاحة. ويتجلى هذا الاتجاه عند مقارنة عمليات العبور اليومية حالياً بالمتوسط خلال أربع سنوات.
مخاطر تسرب النفط
قد يرتفع احتمال وقوع تسرب من السف التي تعبر البحر الأحمر باستمرار، ومن ضمن ذلك النفط المستخدم في تشغيلها وكذلك أي حمولات تجوب المحيطات. هذه الوضعية تعمق المخاطر التي تواجهها الأنظمة البيئية البحرية كالشعاب المرجانية وأشجار المانغروف والثروة السمكية، بالإضافة إلى الموانئ. وتثير تساؤلات حول المسؤولية المالية لإصلاح الأضرار ومن سيتحمل تكاليف إزالتها.
بتوجيه من السلطات الإقليمية وشركات الأمن، توقف بعض السفن تشغيل أنظمة التتبع أثناء وجودها في المنطقة، لذلك قد تكون الأرقام الحقيقية أكبر. تُظهر بيانات “غلوبال فيشنغ ووتش” (Global Fishing Watch) أنه في الفترة من نوفمبر 2023 إلى فبراير 2024، تم اكتشاف 177 سفينة يزيد طولها عن 15 متراً، كما التقطها الرادار، ولم تكن تبث إشارات من نظام التعريف التلقائي. تقوم السفن أيضاً بالجمع بين زيادة السرعة والعبور ليلاً لتجنب وقوع الهجمات. حسب بيانات شركة إدارة المخاطر البحرية “أمبري أناليتكس” (Ambrey Analytics)، تلقت أكثر من 70 سفينة تجارية بشكل مؤكد نوعاً من التهديد من قبل جماعة الحوثي، كما في 15 مارس.
صُنف معظم هذه التهديدات على أنها “أساليب مشبوهة”. ربما اقترب الحوثيون جداً من سفينة بطريقة بدت وكأنها تهديد، أو ربما رصدت السفن ببساطة الحوثيين في مكان قريب (عملية رصد). تشمل مثل هذه الحوادث، سقوط صواريخ قريبة أو دوران القوارب التي يسيطر عليها الحوثيون حول السفن. تعرض حوالي ثلث السفن التجارية لأضرار ملموسة.
انتقاء السفن القديمة
الزيادة النسبية في عمر السفن التي تعبر البحر الأحمر، ربما تكون أحد العوامل المسببة لاستهدافها. ففي بادئ الأمر، استهدفت الهجمات السفن بمختلف أعمارها. أما في الآونة الأخيرة، استهدفت الهجمات السفن القديمة، حيث شرعت السفن الحديثة لأن تسلك مسارات أخرى. من بين الناقلات التي تضررت أو تعرضت للتهديد بشكل مؤكد، كان عمر أكثر من 40% منها أكبر من متوسط عمر السفن على مستوى العالم. في الوقت نفسه، يواصل الحوثيون البحث عن السفن التي لها صلات بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل، حتى لو كانت تلك العلاقات قديمة.
كيف يجمع الحوثيون المعلومات عن السفن المستهدفة؟
“من المرجح جداً أن الحوثيين يستخدمون قواعد البيانات العامة المتاحة للحصول على معلومات حول السفن التي سيتم استهدافها”، وفق ديرك سيبيلز، كبير المحللين في شركة الاستشارات الأمنية “ريسك إنتليجنس”(Risk Intelligence).
ويقول: “استناداً إلى تلك البيانات، فإن معظم السفن المستهدفة كانت تابعة لإسرائيل أو الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، بما يتماشى مع المعايير التي أعلنها الحوثيون للعامة. مع ذلك، حدثت بعض الأخطاء بناءً على معلومات قديمة”.
كانت “روبيمار” إحدى هذه السفن التي تم استهدافها بسبب صلاتها بالمملكة المتحدة. أحد الأسباب المحتملة لاستهداف السفينة هو وجود عنوان قديم لها في مدينة ساوثهامبتون في إنجلترا، وفق بيانات الملكية البحرية. والشركة المشغلة للسفينة هي “بلو فليت غروب” (Blue Fleet Group) ولها مكاتب في اليونان ولبنان.
يمكن أن تبلغ كمية التسرب من السفينة الغارقة 21 ألف طن من فوسفات الأمونيوم التي كانت تحملها، بالإضافة إلى الوقود الذي كانت تستخدمه للتشغيل. وتتولى شركة “توماس ميلر سبيشالتي” (Thomas Miller Specialty) تأمينها ضد حوادث التسرب.
وأكدت الشركة، التي لها مكاتب في لندن، الأمر لكنها قالت إنها لا تستطيع التعليق أكثر بشأن السفينة لأسباب تتعلق بالسرية. إبان فترة الهجوم، نشرت “توماس ميلر سبيشالتي” إشعاراً يفيد بأنها ستسحب بعض التغطية للسفن في البحر الأحمر. رفضت الشركة التعليق على ما إذا كان هذا الإشعار قد أثر على “روبيمار”.
تعطيل كابلات نقل الإنترنت
كان لغرق “روبيمار” نتيجة أخرى غير متوقعة. فعندما سقطت المرساة بعد تعرضها للهجوم في منتصف فبراير، يُعتقد أنها اصطدمت بكابلات بحرية. وتم تعطيل ثلاثة كابلات بعد سقوط المرساة.
تعتزم “إي مارين” وهي شركة تابعة لمجموعة “اتصالات” الإماراتية ومقرها في أبوظبي، إرسال قارب لإصلاح الكابلات الثلاثة، لكن الحصول على التصاريح اللازمة قد يستغرق أسابيع.
رغم إعادة توجيه تدفق البيانات منذ ذلك الحين، إلا أن الكابلات المتضررة تكشف مخاطر أوسع وتكاليف غير متوقعة ناجمة عن الغزو الإسرائيلي لغزة لمحاربة حماس، ورد الحوثيين. تنقل الخطوط حوالي 25% من حركة الإنترنت في المنطقة وأصبحت مهمة في ربط البنية التحتية للاتصالات في أوروبا بآسيا عبر مصر. في ظل وجود عدد كبير من الكابلات البحرية في المياه الضحلة، تظل البنية التحتية الحيوية معرضة للخطر، في حين لا تزال السفن القديمة مجهولة التأمين تبحر عبر المنطقة.
وفي حين أنه تم استئناف مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة الآن، لكن لا توجد حتى الآن نهاية واضحة في الأفق لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر، ولا متى ستبدأ حركة الملاحة في المنطقة تبدو طبيعية.
وقال رولف هابن يانسن، الرئيس التنفيذي لشركة شحن الحاويات “هاباغ-لويد” (Hapag-Lloyd) خلال مقابلة مع تلفزيون “بلومبرغ” هذا الشهر: “الوضع صعب للغاية كونها منطقة (البحر الأحمر) كبيرة لتوفير الحماية لها، في ظل استمرار هجمات الحوثيين”. و”نأمل أن يعود الوضع إلى وضعه الطبيعي في غضون شهرين، لكنني أعلم أن آخرين يدركون أن المشكلة قد تستمر لفترة أطول بكثير”.