إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.. غزة التي تبحث عن العدالة
للمفارقة التاريخية كانت جنوب أفريقيا شريكا قويا لإسرائيل وصنوا لها في تطبيق نظام الفصل العنصري (الأبرتايد)، واليوم باتت الدولة التي تخلصت من إرثها العنصري خصما قانونيا لتل أبيب في محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية في غزة، وتعد هذه المرة الأولى التي تجري فيها مقاضاة إسرائيل على الانتهاكات التي ترتكبها في حق الشعب الفلسطيني.
ورفعت جنوب أفريقيا في 29 ديسمبر/كانون الأول دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، بلاهاي متهمة إياها بارتكاب جرائم إبادة جماعية في حق سكان قطاع غزة، وطالبت المحكمة بأخذ إجراءات من أجل حماية الفلسطينيين خلال الحرب الوحشية التي يخوضها الاحتلال ضد القطاع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وتؤكد جنوب أفريقيا في الدعوى المؤلفة من 84 صفحة أن “أفعال إسرائيل وأوجه تقصيرها تحمل طابع إبادة لأنها مصحوبة بالنية المحددة المطلوبة (…) لتدمير فلسطينيي غزة كجزء من المجموعة القومية والعرقية والإثنية الأوسع أي الفلسطينيين”.
وتشير الدعوى أيضا إلى أن سلوك إسرائيل “من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها”، وهو ما يشكل انتهاكا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
وقعت كل من جنوب أفريقيا وإسرائيل على اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 التي تمنح محكمة العدل الدولية الاختصاص القضائي للفصل في النزاعات على أساس المعاهدة، وتلزم الاتفاقية جميع الدول الموقعة بعدم ارتكاب الإبادة الجماعية وبمنعها والمعاقبة عليها
وذكرت الدعوى كذلك أن إسرائيل “فشلت في منع الإبادة الجماعية وفشلت في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية”. وبالمقابل، أعلنت إسرائيل قبولها المثول أمام المحكمة لمواجهة ما أطلقت عليه “الاتهامات السخيفة التي لا أساس لها” التي وجهتها لها جنوب أفريقيا وستحضر الجلسات يومي 11 و12 يناير/كانون الثاني الجاري.
تاريخ من الجرائم
من زاوية تاريخية، اعتمدت إسرائيل والعصابات الإسرائيلية قبل نشأة الكيان على ارتكاب الجرائم الوحشية التي كانت تهدف إلى الترويع وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وتشير أبحاث لمراكز فلسطينية إلى وقوع أكثر من 100 مجزرة كبرى منذ عام 1947 تتوفر فيها جميعا مقومات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي، لكن إسرائيل بقيت خارج دائرة المحاسبة.
وبشواهد التاريخ وما ترتكبه إسرائيل في حربها الوحشية على غزة لا تحتاج الجرائم ضد الإنسانية وفقاً للمادة 7 من نظام روما الأساسي إلى إثبات، بما فيها القتل والإبادة والاستعباد والترحيل أو النقل القسري للسكان والسجن والتعذيب أو أي شكل آخر من أشكال الحرمان الخطير من الحرية البدنية، بما يشكل انتهاكاً للأحكام الأساسية للقانون الدولي.
وتشمل تلك الجرائم أيضا اضطهاد أي جماعة أو مجتمع محدد لأسباب سياسية أو عنصرية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية أو جنسية، والإخفاء القسري للأشخاص وجريمة الفصل العنصري والأفعال غير الإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تسبب عمدا معاناة شديدة أو ضررا جسيما للسلامة البدنية أو الصحة البدنية أو العقلية.
وتجري تلك الأفعال التي تدخل ضمن خانة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بشكل يومي في الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، عبر أدلة واضحة وموثقة بالصوت والصورة دون أدنى شك كونها “تسبب عمدا معاناة كبيرة أو ضررا جسيما للسلامة الجسدية أو الصحة البدنية أو العقلية للسكان المدنيين”.
وأكدت معظم المنظمات الحقوقية وذات الطابع الإنساني والإغاثي مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومن رايتس ووتش وأطباء بلا حدود ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ومنظمة الصحة العالمية، والصليب الأحمر الدولي على الطابع الإجرامي للأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد السكان المدنيين، وحتى ضد موظفي الهيئات الدولية.
محكمة العدل الدولية التي تسمى أيضا المحكمة العالمية هي أعلى هيئة قانونية تابعة للأمم المتحدة، تأسست عام 1945 للتعامل مع النزاعات بين الدول، وهي تختلف عن المحكمة الجنائية الدولية القائمة على المعاهدات، والتي تتخذ أيضا من لاهاي مقرا وتتعامل مع تهم جرائم الحرب الموجهة ضد الأفراد
الإبادة الجماعية بين الفعل والقصد
تم تعريف الإبادة الجماعية في الاتفاقية الدولية الأولى لمناهضة الإبادة الجماعية، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948 ودخلت حيز التنفيذ عام 1951، ثم في العديد من نصوص الأمم المتحدة وفي نظام روما الأساسي (المادة 6) في حد ذاته.
وتعني الإبادة الجماعية أيًا من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية مثل:
- قتل أعضاء المجموعة
- الإضرار الجسيم بالسلامة الجسدية أو العقلية لأعضاء المجموعة
- إخضاع المجموعة عمدا لظروف معيشية يقصد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا
- التدابير الرامية إلى منع الولادات داخل المجموعة
- النقل القسري للأطفال من مجموعة إلى مجموعة أخرى
واستخدم مصطلح الإبادة الجماعية (genocide) لأول مرة من قبل المحامي البولندي رافائيل ليمكين عام 1946 واعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1946 بمصطلح “الإبادة الجماعية” كجريمة بموجب القانون الدولي، كما يقول مكتب منع الإبادة الجماعية والمسؤولية عن الحماية، وهو هيئة تابعة للأمم المتحدة، وقد أدرج هذا المصطلح في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها عام 1948، التي صدقت عليها 149 دولة.
ولا تخضع جريمة الإبادة الجماعية كما للتقادم، ولا يستفيد مرتكبوها من الحصانة، إذ تتم ملاحقة كل شخص ارتكبها أو أمَر بارتكابها دون النظر إلى منصبه سواء كانوا حكاما أو موظفين عامين أو أفرادا غير مسؤولين وفق المادتين الثالثة والرابعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.
إسرائيل.. خطة وقصد وفعل
بناء على ما تم توثيقه ونقله صوتا وصورة بشكل مباشر، يرى خبراء ومحللون أن إسرائيل نفذت الإبادة الجماعية في غزة بعناصرها المتكاملة بالنظر إلى حجم التفجيرات المدمرة التي تم تصويرها والاستهداف المباشر للسكان بشكل مكثف (بقصد التهجير) وعمليات القتل والحصار والتعذيب الجماعي الجسدي والنفسي وتدمير المنازل ومراكز الإيواء وتدمير أو قطع أسباب الحياة الرئيسية عن قصد، بما فيها المياه والكهرباء والوقود والاتصالات.
ويرى خبراء في القانون أن ارتكاب فعل الحصار الخانق والمنع الكلي أو الجزئي لدخول المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية، وما تم توثيقه من هجمات مقصودة ومدبرة على المستشفيات وسيارات الإسعاف وغرف الإنعاش ووفاة المرضى والأطفال بسبب استحالة علاجهم، والتهجير الممنهج والقسري للغزيين إلى الجنوب يدخل ضمن سياق الإبادة الجماعية.
وإذا كانت النية والقصد من الأركان الأساسية في الاعتراف بالإبادة الجماعية وإثبات أن مرتكبيها كانوا يعتزمون التدمير الجسدي لمجموعة أو جزء من المجموعة (قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية وفق الاتفاقية) فإن الممارسات الإسرائيلية على الأرض أو التصريحات للمسؤولين تشير إلى وجود خطة مضمرة أو سياسة ممنهجة يتم تنفيذها.
ويشير حقوقيون إلى وجود ما سموه “نزعة إبادة جماعية” متواترة ومتكررة في التصريحات والخطابات الرسمية لأعضاء حكومة بنيامين نتنياهو أو مسؤولين آخرين، ومن بينها استحضار سردية “الحرب ضد قوى الشر والبربرية”، وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم ووصفهم بالحيوانات، حيث قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2023:
“نفرض حصارا كاملا على مدينة غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود كل شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقا لذلك”
ويرد في هذا التصريح كل ما يمكن أن يؤخذ على أنه جريمة إبادة جماعية مبيتة. كما كرر مسؤولون إسرائيليون مرارا بأنه لا يوجد مدنيون في القطاع والجميع إرهابيون، ودعا وزير التراث في الحكومة الإسرائيلية عميحاي إلياهو في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني لاستخدام الأسلحة النووية ضد سكان غزة إذا لزم الأمر، وهو ما ردده أيضا عضو الكنيست السابق موشيه فيغلين.
كما وردت عبارة تدمير غزة وجعلها غير قابلة للحياة على لسان عدد من الساسة الإسرائيليين، في حين طلبت وزيرة العدل السابقة آيليت شاكيد تحويل خان يونس إلى “ملعب كرة قدم شاسع”. وتكررت مقترحات تهجير سكان غزة إلى سيناء في مصر، أو ترحيلهم إلى بلدان أخرى على لسان عدد من الوزراء الإسرائيليين، بينهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتبدو عملية حشر أكثر من مليون من سكان غزة تحت وطأة القصف الوحشي وقطع أسباب الحياة عنهم مرحلة من تلك الخطة الإسرائيلية التي تتوافق مع مقتضيات الإبادة الجماعية، كما يشير محللون وخبراء في القانون الدولي.
وفي مقابلة للمؤرخ الإسرائيلي راز سيغال، الأستاذ بقسم أبحاث الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة ستوكتون الأميركية مع قناة “بريكينغ بوينتس” على يوتيوب يشير إلى أن “إسرائيل غارقة بعمق في خطاب الإبادة الجماعية، ويظهر ذلك في الإعلام والسياسة وفي الحياة العامة”.
وأشار أيضا إلى وجود لافتات كبيرة على الجسور والطرقات العامة تدعو لتسوية غزة بالأرض وتدميرها، مضيفا أن الأمر “لا يحتاج إلى شهادة في الأدب المقارن لتفسير مثل هذه العلامات والتعابير”.
وفي 12 ديسمبر/ كانون الأول دعا سيغال في كلمة أمام مبنى الأمم المتحدة في نيويورك إلى “أن تكون هناك نية وفعل لتسمية الأحداث بالإبادة الجماعية في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فالتصريحات العديدة للقادة الإسرائيليين تكشف عن نية تدمير الشعب الفلسطيني”.
كانت هناك أيضا ردود فعل احتجاجية على الجرائم الإسرائيلية في غزة، إذ استقال مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في نيويورك، المحامي كريغ مخيبر في 31 أكتوبر/ تشرين الأول من منصبه، احتجاجا على ما سماه الصمت تجاه “حالة نموذجية من الإبادة الجماعية في غزة”، كما أشار المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى أن “الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل يمكن أن تشكل حالة إبادة جماعية”.
خطوة في مسار طويل
من المنتظر أن تنظر هيئة محكمة العدل الدولية المؤلفة من 15 قاضيا، بالإضافة إلى قاض واحد من كل طرف في القضية (إسرائيل وجنوب أفريقيا) في اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة وتحديد مواعيد بدء المحاكمة وكذلك مواعيد البت في التدابير المؤقتة (الطارئة) التي طلبتها جنوب أفريقيا من أجل حماية الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك وقف العمليات العسكرية والسماح بعودة النازحين قسريا وإدخال المساعدات الإنسانية فورا.
ووفقا للإجراءات الاحترازية، ينبغي على المحكمة أن تنظر أولا فيما إذا كان لديها الاختصاص القضائي للنظر في الدعوى، وما إذا كانت الأفعال التي تتهم بها إسرائيل تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية.
وسيكون لجنوب أفريقيا وإسرائيل ساعتان خلال يومي 11 و12 يناير/كانون الثاني لتقديم الحجج القانونية لصالح أو ضد اتخاذ التدابير المؤقتة أو الطارئة بحضور فريق المحامين الدوليين. وغالبا ما يصدر القضاء إشارة إلى هذه التدابير بمطالبة دولة (إسرائيل في هذه الحالة) بالامتناع عن أي إجراء قد يفاقم النزاع.
ولن تصدر المحكمة حكما نهائيا بشأن اتهامات الإبادة الجماعية إلى حين تعيين وعقد جلسة للبحث في القضية بشكل كامل، وهو ما قد يستغرق سنوات وفق خبراء في القانون الدولي.
ورغم أن أحكام محكمة العدل الدولية نهائية وغير قابلة للطعن، لا توجد أي وسيلة لتنفيذها أو الإلزام باحترامها، لكن من شأن صدور حكم ضد إسرائيل أن يشكل سابقة قانونية وأن يعمق عزلة إسرائيل ويضر بسمعتها دوليا.