إنجي الحسيني تكتب: وردة .. (من المجموعة القصصية :حكاية ريال فضة)
إنجي الحسيني
وردة من أجمل وأطيب نساء المنطقة، وهي التي تتحمل مسئولية أبيها المريض وكذلك تربية وتعليم أخيها الأصغر منها، وسهل لها عملها كخياطة أن توفر أموالًا كثيرة كانت تدخرها لليوم الذي يطرق فيه بابها ابن الحلال، ولأنها مثابرة لأقصى درجة فقد ذاع صيتها حتى أصبحت أشهر وأمهر “الخياطات ” بمنطقة الإبراهيمية ولها زبائن من المشاهير والطبقات العالية، لصنعها ملابس تنافس بها بيوت الأزياء العالمية.
لكن للأسف فقد أظهر لها القدر وجهه القبيح حينما صدمت في أخيها “حسن ” والذي كان بمثابة ابنًا لها ولم تبخل يومًا فى الإنفاق على تعليمه حتى ينال أكبر الشهادات ويصل لأعلى المناصب، إلا أن حسن قام بالنصب عليها وعمل مبايعة للشقة التى كانوا يعيشون فيها لحسابه الخاص كما سرق كل ما قامت بتوفيره وسافر بعد ذلك خارج البلاد.
وجدت وردة نفسها في أحضان الشارع بصحبة أبيها الطاعن فى السن بلا مأوى أو مبلغ تستطيع الاستناد عليه، فذهبت إلى “صافيناز هانم ” زبونتها المفضلة وروت لها ما حدث من أخيها، فعطفت عليها وقامت بمساعدتها، وشيدت لها غرفة بحمام بسيط فوق سطح بيتها وحررت لها عقد إيجار باسمها بقيمة لا تكاد تذكر حتى لا يستطيع أحد طردها يومًا ما في حالة وفاتها وحتى لا تعرضها لكلاب الشوارع.
بدأت وردة تستعيد نفسها شيئا فشيئًا، وحرص زبائنها القدامى على الاستمرار معها في مكانها الجديد نظرًا لمهارتها المعروفة، ودعمًا لها بعدما فقدت كل شئ ، وفي خلال سنتين قامت بتأثيث الغرفة بأثاث أفضل وبدأت في البحث عن شقة صغيرة تستأجرها واستطاعت بوجهها البشوش أن تقتحم قلوب سكان المنطقة، حتى تعرفت بجارها نبيلوهو مهندس بأحد الشركات الهامة ، اقتحم نبيل قلب الفتاة سريعًا وارتبطت به عاطفيًا وخاصة إنه أظهر نوعًا من التعاطف والحزن تجاهها بعد معرفته بقصة أخيها معها، ولكنه لم يدعها وشأنها فجمالها لا تخطئه عين وخاصة عين قناص ماهر مثله، ورغم إنه لم يقل لها ولا مرة واحدة إنه يحبها، إلا إنها استسلمت لقبلاته وأحضانه حتى فقدت عذريتها على يديه.
كادت وردة تموت كمدًا عندما سمعت بخبر خطوبته من قريبة له، ووقفت في منتصف سطح البيت تصرخ وتتأوه كلما علت أصوات الزغاريد من بيته.
واجهت وردة حبيبها وهي تبكي وترتجف وارتمت بين أحضانه ووضعت رأسها على صدره كما كانت تفعل في السابق، لعلها تجد الدفء والأمان الذي طالما شعرت بهما من قبل، ولكنه عاملها بصلف وتكبر ودفعها بعيدًا عنه بغلظة شديدة وهو يذكرها بوضعه الاجتماعى مقارنة بمستواها المتواضع، كما عايرها بخطيئتها معه وقال لها لماذا يتزوجها بعد أن حصل منها على ما يريد، وأن كل ما صار بينهما ما هو إلا علاقة فى حياته أنتهت بمجرد أن وجد من هي أجدر به، وأن حديث الذكريات مصيره النسيان.
وقفت وردة كالمشلولة بلا رد، حتى تركها راحلًا عنها وسارت خلفه وهى لا تعرف كيف وصلت إلى بيتها.. نادى العجوز ابنته عدة مرات ولم تجب فقد بدت كشبح أتى من عالم آخر، فتتبعها وهي تدخل الحمام واقتحم الباب بجسده النحيل في محاولة منه لإنقاذها من الانتحار حرقًا، بكى أبوها وهو يحتضنها قائلا: حرام عليكِ يا بنتي، فأنا أتنفس الهواء بسببك.
*****
لم تحاول وردة الاقتراب من نبيل ثانية، لكنها لم تعد نفس الشخص منذ ذلك اليوم ،فقد أصابها ما يشبه اللوثة العقلية، حاول المقربون منها مساعدتها بعدما رأوا حالتها النفسية المضطربة وخاصة بعد علمهمبعودة أخيها المليونير من الخارج، اصطحبها أهل الحى إلى قصره والذى يملأه الخدم و يبدو في ركن من أركانه مظاهر الثراء الفاحش، فقد نجح حسن في تحقيق كل ما يريد في الحياة من نعيم وترف وأولاد وزوجة جميلة ووضع مرموق إجتماعيًا .
ظلت وردة هادئة وهي ترى تجاهله لها وسألت نفسها: أهذا هو حقا ؟! وأنصتت لمحاولات أولاد الحلال وهم يستعطفونه لتعويضها عن مرارة الأيام والفقر الذى عاشت فيه بسببه،سرحت في وجه أخيها المتكبر وفي ردوده المتعجرفة، وتذكرت كيف كانت تحنو عليه طفلًا وشابًا، كادت الدموع تعبر مقلتيها ولكنها تماسكت وتنهدت بحزن وهي تسمعه قائلًا إنه قد تبرأ منها ومن ماضيه كله، حتى اسمه قام بتغييره بالبطاقة وأن أخته لم تعد تعني له أي شئ وأن وجودها في حياته تشويه لصورته الاجتماعية الحالية.
*****
خرجت وردة تستند على ذراع أحد جيرانها، وكان ما جرى هو القشة التي قصمت ظهرها وجعلها تتحول إلى شبح إنسان أو مسخ بكل ما تحمله الكلمة من معاني ومنذ ذلك اليوم وهي منبوذة، بعد أن صارت تلعن الرجال ليل نهار، ولم تعد تهتم بأبيها كعادتها، بل أعتقد الجميع إنها قتلت أباها عندما رأوها تجلس فوقهوهي تضحك بهستيرية..
عاشت المسكينة أيامها الأخيرة وحيدة بغرفتها تعتمد على معونات أهل الكرم والأحسان ولم تتناول إلا قليلًا مما يقدم لها، ولم تعد تغادر مكانها إلا نادرًا، وفي أحد المرات صعدت صافيناز هانم كي تراها وتطمئن أن لديها من الطعام ما يكفيها ولكنها وجدتها ميتة ، فقد أماتها الحزن كمدًا وقهرًا من خيانة القريب وغدر الحبيب .