تحقق 9 مليارات دولار.. هل تعزز صناعة “التعهيد” مصادر مصر الدولارية؟
تحظى صناعة “التعهيد” في مصر بدعم حكومي كبير، ويمتد هذا الدعم إلى أكثر من عقدين من الزمن، حيث تقوم الحكومة المصرية بتعزيز الجهود في هذه الصناعة، وتحرص على تنميتها من خلال وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فيما تتولى هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات “إيتيدا” رعاية هذه الصناعة من خلال التعرف على احتياجاتها وتلبيتها، وتوفير الكوادر المؤهلة للعمل فيها، والترويج لمقوماتها خارجياً.
لم تتوقف الجهود عند هذا الحد، إذ أطلقت مصر استراتيجيتها الرقمية لصناعة التعهيد 2022-2026 بهدف مضاعفة حجم الصادرات المصرية من منتجات وخدمات تكنولوجيا المعلومات العابرة للحدود، حيث تلحظ هذه الاستراتيجية تقديم حزمة حوافز جديدة لجذب الاستثمارات والتوسع في ما هو قائم منها بالفعل، فضلاً عن تمكين الشركات المحلية وتشجيع إنشاء أعمال جديدة، وتعزيز تنافسية مصر في مجالات البحث والتطوير وخدمات القيمة المضافة، على النحو الذي يسهم في تسريع نمو اقتصاد المعرفة.
يُقصد بـ”التعهيد” استخدام واستئجار كفاءات وقوى وأفراد ووسائل وخدمات من مؤسسات أو شركات أو جهات ثالثة “خارج النطاق الجغرافي للبلد”، وهي طريقة جديدة لتقسيم العمل وتوفير المال والطاقة والوقت في مختلف قطاعات الحياة الاقتصادية وغير الاقتصادية، وذلك بإعطاء الجهة الثالثة المستعان بها الثقة ومهام ووظائف ومسؤوليات وصلاحيات وهيكليات معينة، وأنشطة كانت عادة تقوم بها “ذاتياً وتؤديها داخلياً الجهة المستعينة.
مزيد من النمو
نجحت “إيتيدا” من خلال الترويج للحوافز الاستثمارية المقدمة في إطار الاستراتيجية، في تحقيق المزيد من النمو في صناعة التعهيد في مصر، بما يشمل التوقيع مع 48 شركة خلال عام 2022 لإقامة مراكز تعهيد أو التوسع في مراكزها، وبعدد إجمالي وصل إلى 56 مركزاً.
قال وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصري عمرو طلعت إن صادرات صناعة التعهيد يُتوقع أن تصل إلى 9 مليارات دولار بحلول عام 2026. كما ستوفر هذه الصناعة فرص عمل كثيفة للشباب المصري في مختلف مجالات تكنولوجيا المعلومات ليصل عدد المتخصصين في هذا المجال إلى 550 ألفاً في العام ذاته.
مصدر مسؤول في قطاع تكنولوجيا المعلومات المصري قال لـ”الشرق” طالباً عدم الإفصاح عن هويته، إن قيمة صادرات خدمات التعهيد يُتوقع أن تتجاوز 9 مليارات دولار بنهاية 2026، خصوصاً أن العديد من مصنعي الإلكترونيات يعتزمون إنشاء مصانع لهم في مصر، على غرار شركة “سامسونغ” التي أعلنت مؤخراً عن توسيع استثماراتها وإنشاء مصنع جديد للهاتف المحمول في البلاد.
مصدر للعملة الأجنبية
تعتبر صناعة التعهيد في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أحد أهم مصادر التصدير والعملة الصعبة الرئيسية في القطاع. وتعد مصر من بين أسرع وجهات خدمات التعهيد نمواً فى العالم، ومركزاً رئيسياً لتقديم خدمات التعهيد يدعم نمو أعمال المئات من الشركات العالمية. وتحتضن مصر اليوم أكثر من 150 مركزاً لتصدير هذه الخدمات، من بينها مراكز عالمية.
كما تشغل مصر المرتبة الأولى على مستوى أفريقيا والمرتبة الثانية عريباً و23 عالمياً في هذا المجال، وفقاً لمؤشر “مواقع الخدمات العالمية” الصادر عن مؤسسة “كيرني” الاستشارية العالمية لعام 2023. وهي تأتي بين قائمة أفضل 5 دول تقدم خدمات التعهيد بحسب تصنيف شركة “رايَن” للاستشارات الاستراتيجية، والتي أكدت في تقرير حديث أن مصر قادرة على تعزيز مكانتها كمنافس عالمي في خدمات تعهيد الأعمال (BPO)، مع خبرتها التي تمتد لأكثر من 20 عاماً في هذه الصناعة.
تطورت هذه الصناعة بشكل كبير في مصر حيث بدأت الحكومة المصرية في بادئ الأمر بالتركيز على خدمات تعهيد العمليات التجارية ومراكز الاتصال وخدمات تكنولوجيا المعلومات والدعم الفني. ثم وجهت الحكومة أنظارها نحو تعزيز مكانة مصر في مجالات تصدير خدمات القيمة المضافة وخدمات المعرفة والبحث والتطوير وتصميم الإلكترونيات والأنظمة المدمجة.
مواهب وكفاءات
يستفيد هذا القطاع بشكل رئيسي من وجود مواهب وكفاءات عالية تجيد لغات مُتعددة، في وقت ينضم فيه إلى القوى العاملة أكثر من 600 ألف خريج سنوياً في العديد من التخصصات، جزء كبير منهم حاصلون على شهادات في اختصاصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
زاد حجم الصادرات الرقمية في مصر من 3.2 مليار دولار في عام 2017 إلى 4.9 مليار في 2022. لقد “بات التعهيد من أهم الصناعات التصديرية الخدمية لمصر.. فهو لا يحتاج إلى مدخلات صناعة بل يقوم فقط على الكفاءات البشرية” بحسب رامي كاطو، المدير العام السابق والمدير الدولي لقطاع خدمة العملاء في “فودافون للخدمات الدولية مصر”.
قال كاطو لـ”الشرق” إن نسب النمو المتوقعة لهذه الصناعة ستتجاوز 15% ما بين عامي 2023 و2024. وأضاف: “لدينا في مصر عدد كبير من الخريجين سنوياً” ومن الضروري إيجاد خريجين على مستوى تأهيلي جيد يسمح بإتاحة هذه الخدمات بجودة عالية، وهذا ما ركزت عليه الحكومة في مصر خلال الفترة الماضية، من خلال مبادرات وتدريب وتأهيل الخريجين عبر (إيتيدا).
كاطو أشار إلى أن ضعف الجنيه المصري سيسهم في جذب عملاء جدد من أماكن متعددة لمنافسة أسواق أخرى، موضحاً أن مصر تنافس حالياً الهند والفلبين، وهي تتميز بأسعار أقل بنسبة تتراوح بين 10% و15% مقارنة بجنوب أفريقيا.
مستقبل واعد
من جانبه قال أحمد أبو العز، الرئيس التنفيذي لشركة “راية لخدمات مراكز الاتصالات” (RAYA CX)، وهي إحدى شركات “راية القابضة للاستثمارات المالية”، إن مستقبل صناعة التعهيد في مصر “مشرق” نظراً لتمتعها بالعديد من المزايا التي تجعلها وجهة جذابة لشركات التعهيد العالمية. ويشمل ذلك برأيه، تكلفة العمالة المنخفضة، “إذ تعد مصر واحدة من أقل الدول في العالم من حيث تكلفة العمالة الماهرة”.
نوّه أيضاً بوجود مزايا أخرى تتيحها البنية التحتية التكنولوجية المتطورة، بما في ذلك شبكات الإنترنت السريعة، ومراكز البيانات الحديثة، والموقع الجغرافي الذي يسمح لمصر بأن تكون مركزاً تجارياً عالمياً.
أضاف أبو العز في حديثه إلى “الشرق”: “مع وجود كل هذه المزايا، يُتوقع أن تصبح مصر مركزاً عالمياً لصناعة التعهيد، حيث تقدم مجموعة واسعة من الخدمات لأسواق مختلفة حول العالم”.
تشمل هذه الأسواق بحسب أبو العز، الأسواق الأوروبية والأميركية، فضلاً عن أسواق الشرق الأوسط والخليج العربى وشمال أفريقيا. وقال: “هناك مقترحات يمكن أن تزيد من زخم النمو في صناعة التعهيد المحلية، على رأسها تعزيز الابتكار من خلال الاستثمار في البحث والتطوير والتعليم، وتطوير الكوادر البشرية عبر توفير التدريب وبرامج التأهيل للعمالة الماهرة، وكذلك تحسين البنية التحتية من خلال تطوير الاتصالات والنقل والخدمات اللوجستية”.
يتوقع أبو العز أن تسجل هذه الصناعة نمواً بنسبة 20% في مصر خلال 2024، بدعم من زيادة الطلب على خدمات التعهيد من قِبل الشركات في جميع أنحاء العالم، لما لذلك من خفض في التكاليف وزيادة في الكفاءة. لكنّه حذّر من احتمال تأثر القطاع بعوامل اقتصادية وسياسية، وأن تؤدي الاضطرابات السياسية في المنطقة والعالم إلى عرقلة النمو.
تحولات متسارعة
تتميز صناعة التعهيد في مصر بتاريخ طويل نسبياً. فشركة “أورنج بيزنس” مثلاً تعمل في هذا المجال منذ عام 2003، ولديها من الموارد البشرية اليوم ما يصل إلى 3 آلاف من الكفاءات المتخصصة في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات والخدمات. إلا أن التحولات المتسارعة باتت تفرض تحديات كبيرة.
الهجوم على “فوري” يحفز الأمن السيبراني لدى شركات مصر
قال حسين بوعمراوي، مدير عام الشركة لـ”الشرق”: “يخضع هذا القطاع حالياً لتغييرات سريعة وجوهرية، يتحول معها نموذج أعمالنا من كوننا مزودين للخدمات فقط، إلى شركة متخصصة في التحول الرقمي باختلاف خدماته”. وأضاف: “لا بد للحكومة والقطاع الخاص من التركيز على هذا المجال أكثر من ذي قبل للمحافظة على الميزة التنافسية وجذب الاستثمارات الكبيرة، لا سيما في مجالات الخدمات السحابية والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي وإدارة البيانات.. هذا يفتح أمامنا فرص نمو كبيرة”.