كامل مراد يكتب: (طقوس متقاعد)

                    كامل مراد 

كنتُ أسمع عن طقوس المتقاعدين من بعض الأصدقاء عندما يتحدَّثون عن أقاربهم الذين تقاعدوا، وكنتُ أشاهد بعض تصرفات والدي رحمه الله في فترة التَّقاعد، وكانت تتلخص معظمها بشجار ودّي مع والدتي رحمها الله على رفع صوت المذياع صباحًا عند سماع الأخبار، وكنتُ أستغرب أنَّهم بعد هذه العشرة الطَّويلة والتي امتدَّت إلى حوالي نصف قرن يختلفون على أمورٍ بسيطةٍ، حتَّى في أبسط الأمور مثل: ترتيب أثاث المنزل أشاهد انزعاجه رغم بساطة الموضوع وسهولته في نظري.

ودارت الأيام وجاء دوري لأعيش فترة التَّقاعد مع ابنتي الوحيدة الغالية، حيثُ أقوم بعد خروجها من المنزل بعمل جولة تفقديَّة أتأكَّد فيها أنَّ الإضاءة تمَّ إغلاقها وشاحن الهاتف ليس بالكهرباء، ولا بدَّ عند خروجها من المنزل أن أقوم بتوجيه بعض الإرشادات لها، من ضمنها عدم القيادة بسرعة، وعدم استخدام الهاتف أثناء القيادة، والتَّأكيد عليها بالانتباه على صغيرتها (حفيدتي)، وطوال بقائهم خارج المنزل أبقى على تواصل معها حتَّى أنَّني أشعر في بعض الأحيان أنَّها انزعجت من كثرة الاتّصالات ومن متابعتي الدَّائمة لها.

ربَّما بعد التَّقاعد يشعر الواحد منَّا بالفراغ فيبدأ بملئه بالاهتمام الزَّائد بتفاصيل البيت والأولاد والزَّوجة، وعندما يرغب الأولاد بالخروج خارج المنزل لتناول الطَّعام أو زيارة أحد يرفض مرافقتهم ويفضِّل الجلوس وحيدًا في المنزل، وعند سؤاله عن السَّبب يقول أريد أن أرتاح وأجلس بهدوء، ويصبح لا يتحمَّل أن يتناقش بالتَّفاصيل، ويطلب من أولاده اختصار الكلام وعدم ذكر التَّفاصيل، حتَّى عند الذَّهاب للأسواق للشراء لا يرغب بالتَّفاوض مع البائع بالسِّعر إذا كانت الفروقات بسيطة، فهي لن تغني الواحد في هذا العمر، وحتَّى عند السَّفر خارج مكان الإقامة تجده ما إن يصل إلى البلد الذي خرج لزيارته يبدأ بالسُّؤال عن تاريخ العودة؛ لأنَّه يشتاق لبيته وأغراضه الشَّخصيَّة.

والمتقاعد يصبح حساسًا مع أولاده ولا يرغب بأن يشعرهم أنَّه أصبح ثقيلًا عليهم، سواء ماديًّا أو معنويًّا، فيرفض أن يساعده أولاده ماديًّا، وكذلك في بعض الأحيان معنويًّا، فإذا مرض لا يرغب بإخبارهم؛ لكي لا يتركوا أعمالهم ويأخذوه للعلاج، ويكتم الألم دون أن يخبرهم لكي لا يقلقوا عليه، لذلك رفقًا بالمتقاعدين فهم آباؤنا الذين بذلوا الغالي والنفيس من أجلنا، وقدَّموا كلَّ ما لديهم لإسعادنا، والآن جاء دورنا لكي نعطف عليهم ونرعاهم ونصبر على آلامهم ونخفّفها عنهم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى