رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن صنيع المعروف غرس لايضيع عند الله

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن صنيع المعروف غرس لايضيع عند الله
بقلم / المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن صنيع المعروف غرسٌ لا يضيع عند الله، لكنه في موازين البشر قد يقابل بقلوبٍ غلف، وأرواحٍ جفت منها منابع المروءة. ولعلَّ العبارة الدارجة على الألسن “اتقِ شر من أحسنت إليه” تكتنز خلفها فلسفةً في الطبائع البشرية، وتنبيهًا للألباب من غوائل اللئام. وهذا المقال إبحارٌ في دلالات هذه المقولة، وتفصيلٌ لأحكامها، واستعراضٌ لقصص الجحود بلغةٍ تجمع بين رصانة العلم وعذوبة الأدب.
● أولاً: الدرجة الحديثية للمقولة
– ينبغي للمسلم أن يكون وقافاً عند حدود النقل، متبصراً بما ينسبه إلى مقام النبوة الأسمى. وبالنظر في دواوين السنة وكتب الآثار، نجد أن مقولة “اتق شر من أحسنت إليه” ليست حديثاً نبوياً، ولم ترد في الكتب الستة ولا المسانيد المعتبرة.
• ذكر الإمام العجلوني في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): “اتق شر من أحسنت إليه، وفي لفظ من تحسن إليه، قال في الأصل: لا أعرفه، ويشبه أن يكون من كلام بعض السلف”.
• وأكد هذا المعنى الإمام السخاوي في (المقاصد الحسنة)، موضحاً أن هذه الحكمة لا تؤخذ على إطلاقها، بل هي مقيدة بمراتب الناس وطبائعهم.
● ثانياً: خطورة نسبة الأقوال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغير تثبت
إن التهاون في نسبة الأقوال للسنة النبوية مسلكٌ وعر، وقد حذر الشارع الحكيم منه أشد التحذير.
• روي الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، والترمذي، وابن ماجه، من حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ وَهُوَ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ”.
<أخرجه مسلم في((المقدمة)) (1/9)، والترمذي (2662)، وابن ماجه (41)، وأحمد (18240) >
• والقاعدة الأصولية تقول “إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل”، والنسبة للنبي تقتضي “الثبوت القطعي أو الظني الراجح”، وما لا أصل له في الدواوين لا يحل رفعه إليه.
● أولاً: المفهوم الدلالي والتقييد باللئام
– إن هذه المقولة ليست دعوةً للكف عن الإحسان، بل هي “قاعدة استشرافية” في فقه التعامل مع “اللئام”. فـالناس معادن، والمعدن الخبيث لا يزيده الإحسان إلا ترفُّعاً كاذباً أو حقداً دفيناً.
• قال أبو الطيب المتنبي في رائعته:
إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ … وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا
● ثانياً: الشواهد القرآنية على جحود بعض النفوس .
– لقد سجل القرآن الكريم نماذج من البشر قابلوا فضل الله وعطاءه بالنكران.
• قال تعالى في سورة التوبة: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (التوبة: 74).
• ذكر الإمام القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) أن هذه الآية تشير ضمناً إلى معنى “اتق شر من أحسنت إليه”؛ لأن هؤلاء المنافقين كان حقهم أن يشكروا الفضل الذي نالوه ببركة وجود النبي فيهم، لكنهم نقموا وأظهروا العداوة، وهذا منتهى اللؤم.
– في غياهب الصحراء المترامية، حيث تشتد الرمضاء وتلفح الوجوه رياح السموم، خرج فتيةٌ من العرب يبتغون صيداً. وبينما هم يطردون خلف طرائدهم، لاحت لهم “أم عامر” (وهي أنثى الضبع)، فجدوا في طلبها حتى أعياها الركض وأهلكها العطش، فلاذت بخباء أعرابي بسيط، واستجارت بظله من نبال القوم وحدِّ سيوفهم.
خرج الأعرابي، فرأى الدابة تلهث في ذلة وتنظر إليه بعين المستنجد، فثارت في نفسه نخوة العرب، ووقف سداً منيعاً أمام القناصين قائلاً: “والله لا تصلون إليها وهي في رحلي!”. فكفوا عنها ومضوا.
هنا، تجلت “سذاجة الطيب” في أبهى وأقسى صورها؛ فقد عمد الأعرابي إلى شاةٍ عنده، فحلبها وقدم لبنها سائغاً لتلك الضبع، بل ولم يكتفِ بذلك حتى أطعمها من اللحم والمرق حتى استعادت قواها، وغطت في نومٍ عميق بجانب أخٍ له كان نائماً في الكوخ.
وبينما الأعرابي في غمرة سروره بصنيعه، استيقظت في نفس “أم عامر” غريزة الفتك، ونسيت لبن الشاة وحماية الرجل، فوثبت على أخيه النائم، فبقرت بطنه وأكلت من حشاشته، ثم ولت هاربةً في الفيافي.
دخل الأعرابي الكوخ، فإذا بالمشهد يدمي القلوب؛ دماءٌ مسفوكة، وأخٌ مقتول، وجزاءٌ من جنس الغدر. فوقف ينشد بمرارةٍ تحكي قصة كل معروف ضاع في غير أهله:
وَمَنْ يَصْنَعِ الْمَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ … يُلَاقِ الَّذِي لَاقَى مُجِيرُ أُمِّ عَامِرِ
أَذَمَّ لَهَا حِينَ اسْتَجَارَتْ بِرَحْلِهِ … لِتَأْمَنَ أَلْبَانَ اللِّقَاحِ الدَّرَائِرِ
فَأَسْمَنَهَا حَتَّى إِذَا مَا تَمَلَّكَتْ … فَرَتْهُ بِأَنْيَابٍ لَهَا وَأَظَافِرِ
فَقُلْ لِذَوي الْمَعْرُوفِ هَذَا جَزَاءُ مَنْ … أَرَادَ يَدَ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ شَاكِرِ
في سياقٍ متصل، تبرز قصة ذلك الراعي الذي وجد جرواً صغيراً يرتجف برداً ويصارع الموت جوعاً. حناه ببردته، وأطعمه من فضله، بل وبلغ به الإشفاق أن خصه بشاةٍ من خير أغنامه لترضعه.
مرت الأيام، ونمت أنياب الجرو، وتبين أنه “ذئبٌ” في أهاب كلب. وبمجرد أن اشتد عوده، كان أول ما نهشه هو ضرع تلك الشاة التي غذته بدمها ولبنها.
• هذه القصص تؤصل لقاعدة: “أن المعدن السيئ لا يغيره الصقل، بل يزيده لمعاناً لخداع الضحية”.
● أولاً: إخلاص النية لله
وأن يجعل معروفه لله. قال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان: 9).
● ثانياً: التفرقة بين الكرام واللئام
• من الفقه في الدين أن يضع الإنسان معروفه في موضعه.
• قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ تَصْحَبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ”<أخرجه أبو داود (4832)، والترمذي (2395) واللفظ لهما، وأحمد (11337) من حديث أبي سعيد الخدري>
• هذا توجيه نبوي لاختيار “الأرض الخصبة” لغرس المعروف.
● ثالثاً: الحذر من الغدر
• المؤمن لا يكون مغفلاً، بل فطناً لبيباً.
• عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: “لاَ يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ” <أخرجه البخاري (6133)، ومسلم (2998)، وأبو داود (4862) واللفظ لهم.>
– إن مقولة “اتق شر من أحسنت إليه” هي حكمةٌ اجتماعية مُجربة، وليست تشريعاً بترك الإحسان. هي دعوة للحذر، وتنبيه لأصحاب المروءات أن بعض النفوس لا يروضها إلا الحزم، وأن “تسمين الكلب” الذي طُبع على العقْر قد ينتهي بأكل صاحبه. فكن محسناً لله، حذراً من اللئام، وفياً مع الكرام.
اللهم يا من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يا من كرمه يفيض على الشاكر والجاحد، ويا من سبقت رحمته غضبه، إنا نرفع إليك أكف الضراعة في زمنٍ كثر فيه نكران الجميل، وعزَّ فيه الوفاء بين الدخيل والأصيل.
● اللهم إنا نعوذ بك من غدر النفوس التي أكرمناها فتمردت، ومن القلوب التي آويناها فغدرت، ومن الألسن التي أطعمناها فنطقت بالسوء وأفجرت.
● اللهم اكفنا شر اللئيم إذا قدر وشر الحقود إذا استكبر، وشر من جعلنا له من عسرٍ يسراً، فجعل لنا من أمرنا عسراً.
• اللهم اجعل بيننا وبين كيدهم سداً، ولا تسلطهم علينا بذنوبنا، واصرف عنا أذاهم بما شئت وكيف شئت.
• اللهم إنك تعلم أننا بذلنا المعروف طلباً لمرضاتك، فاحفظنا بجميل صنعنا من شرور من لم يعرف قدر إحساننا.
● اللهم لا تجعل معروفنا سبباً في هلاكنا، ولا تجعل إحساننا طريقاً لأذيتنا. اللهم إنا نبرأ إليك من الضعف والعجز، ونستعيذ بك من أن نُلدغ من جحرٍ أطعمنا أهله.
● اللهم طهر قلوبنا من الندم على ما فات من الإحسان، ولا تجعل جحودهم يمنعنا من صنيع المعروف، ولكن ارزقنا الفراسة ، والبصيرة التي ندرك بها معادن البشر.
• اللهم إنا نسألك أن تجعل فضلنا عليهم حجاباً يحجب شرهم عنا، ونوراً يكف بأسهم عنا.
● اللهم إنا نعوذ بك من خليلٍ ماكر، عينه ترعانا وقلبه يرعانا (بالسوء)، إن رأى حسنةً دفنها، وإن رأى سيئةً أذاعها، وإن أحسنا إليه نقم، وإن أسأنا إليه انتقم.
● اللهم اكفنا شرورهم بما كفيت به أنبياءك من كيد أعدائهم، واجعل كيدهم في نحورهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم.
• اللهم ارزقنا صحبة الأتقياء، الذين إن أحسنت إليهم شكروا، وإن قصرت في حقهم صبروا وعذروا.
• اللهم اجعلنا ممن يقال فيهم “اتقِ شر من أحسنت إليه” بظلمهم، ولا تجعلنا نحن من الظالمين الجاحدين.
• اللهم عافنا واعفُ عنا، وبصرنا بطبائع من حولنا، واجعلنا نضع المعروف في أهله، واكفنا شر من لا يعرف للجميل قدراً، ولا للوفاء وزناً.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد الذي أوذي فصبر، وأُعطي فشكر، ونعوذ بك من منقلب اللئام، وجحود الأنام، يا ذا الجلال والإكرام.



