الأَمْنُ القَوْمِيُّ الصَّامِتُ: التَّهْدِيدَاتُ الَّتِي لَا تُعْلَنُ وَلَكِنَّهَا تُسْقِطُ دَوْلَة

إعداد :د/ شيماء المتعب
بداية لم تَعُدْ مَعَادِلَاتُ الأَمْنِ القَوْمِيِّ فِي العَالَمِ المُعَاصِرِ تُقَاسُ بِعَدَدِ الجُنُودِ أَوْ حَجْمِ التُّرْسَانَاتِ العَسْكَرِيَّةِ فَقَط، بَل بِقُدْرَةِ الدُّوَلِ عَلَى حِمَايَةِ بِنْيَتِهَا الدَّاخِلِيَّةِ مِنْ تَهْدِيدَاتٍ خَفِيَّةٍ تَعْمَلُ فِي صَمْتٍ. فِي هَذَا السِّيَاقِ، يَبْرُزُ مَفْهُومُ «الأَمْنِ القَوْمِيِّ الصَّامِتِ» كَإِطَارٍ تَحْلِيلِيٍّ يُفَسِّرُ كَيْفَ تَتَعَرَّضُ الدُّوَلُ لِلِاسْتِنْزَافِ وَالتَّآكُلِ الدَّاخِلِيِّ دُونَ أَنْ تَدْخُلَ حَرْبًا تَقْلِيدِيَّةً أَوْ تَتَلَقَّى إِنْذَارًا مُسْبَقًا بِالسُّقُوط.
أَوَّلًا: تَأْصِيلُ مَفْهُومِ الأَمْنِ القَوْمِيِّ الصَّامِتِ
يُشِيرُ الأَمْنُ القَوْمِيُّ الصَّامِتُ إِلَى مَجْمُوعَةِ التَّهْدِيدَاتِ غَيْرِ العَسْكَرِيَّةِ وَغَيْرِ المُعْلَنَةِ الَّتِي تَسْتَهْدِفُ مَرَاكِزَ القُوَّةِ الدَّاخِلِيَّةِ لِلدَّوْلَةِ، وَفِي مُقَدِّمَتِهَا الوَعْيُ الجَمْعِيُّ، وَالتَّمَاسُكُ المُجْتَمَعِيُّ، وَالاسْتِقْرَارُ الِاقْتِصَادِيُّ، وَالثِّقَةُ فِي المُؤَسَّسَاتِ. وَتَعْمَلُ هَذِهِ التَّهْدِيدَاتُ بِمَنْطِقِ الِاسْتِنْزَافِ البَطِيءِ، بِمَا يُفْقِدُ الدَّوْلَةَ قُدْرَتَهَا عَلَى الصُّمُودِ وَاتِّخَاذِ القَرَارِ فِي اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ.
ثَانِيًا: خُطُورَةُ التَّهْدِيدَاتِ الصَّامِتَةِ فِي بِنْيَةِ الدَّوْلَةِ
تَكْمُنُ خُطُورَةُ هَذَا النَّمَطِ مِنَ التَّهْدِيدَاتِ فِي أَنَّهُ:
يَعْمَلُ خَارِجَ نِطَاقِ الرَّدْعِ العَسْكَرِيِّ التَّقْلِيدِيِّ.
يَتَسَلَّلُ تَحْتَ غِطَاءٍ قَانُونِيٍّ أَوْ إِعْلَامِيٍّ أَوْ اقْتِصَادِيٍّ مَشْرُوعٍ ظَاهِرِيًّا.
يُفَكِّكُ قُدْرَةَ الدَّوْلَةِ عَلَى الحَشْدِ وَالتَّعْبِئَةِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ أَيُّ خَطَرٍ خَارِجِيٍّ مُبَاشِر.
يَجْعَلُ أَيَّ صِدَامٍ لَاحِقٍ أَكْثَرَ كُلْفَةً وَأَقَلَّ قَابِلِيَّةً لِلِاحْتِمَال.
ثَالِثًا: أَدَوَاتُ الأَمْنِ القَوْمِيِّ الصَّامِتِ
1. اِسْتِهْدَافُ الوَعْيِ وَالسَّرْدِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ
يَتِمُّ ذَلِكَ عَبْرَ تَشْوِيهِ التَّارِيخِ، وَإِضْعَافِ الرِّوَايَةِ الوَطَنِيَّةِ، وَبِنَاءِ خِطَابٍ يُقَوِّضُ الثِّقَةَ فِي الذَّاتِ الجَمْعِيَّةِ وَيُعِيدُ تَشْكِيلَ مَفَاهِيمِ الوَلَاءِ وَالاِنْتِمَاءِ.
2. الاِخْتِرَاقُ الِاقْتِصَادِيُّ وَالاسْتِنْزَافُ المَالِيُّ
وَيَتَجَسَّدُ فِي إِضْعَافِ القُطَاعَاتِ الإِنْتَاجِيَّةِ، وَتَكْرِيسِ التَّبَعِيَّةِ، وَتَحْوِيلِ الِاقْتِصَادِ إِلَى عَامِلِ ضَغْطٍ دَائِمٍ عَلَى القَرَارِ السِّيَاسِيِّ.
3. تَفْكِيكُ الهُوِيَّةِ وَإِدَارَةُ الاِنْقِسَامَاتِ
عَبْرَ تَأْجِيجِ التَّنَوُّعِ وَتَحْوِيلِهِ مِنْ مَصْدَرِ ثَرَاءٍ إِلَى مَجَالِ صِرَاعٍ يُهَدِّدُ وَحْدَةَ النَّسِيجِ الوَطَنِيِّ.
4. الحُرُوبُ السِّيبْرَانِيَّةُ وَالمَعْلُومَاتِيَّةُ
وَتَشْمَلُ الاِخْتِرَاقَ الرَّقْمِيَّ، وَضَرْبَ البِنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ، وَالتَّلَاعُبَ بِالمَعْلُومَاتِ لِخَلْقِ الفَوْضَى وَفَقْدَانِ الثِّقَةِ.
5. إِرْهَاقُ المُؤَسَّسَاتِ وَنَزْعُ الشَّرْعِيَّةِ
مِنْ خِلَالِ تَشْوِيهِ الأَدَاءِ العَامِّ، وَتَعْظِيمِ الأَخْطَاءِ، وَبِنَاءِ صُورَةٍ ذِهْنِيَّةٍ تُفْقِدُ المُؤَسَّسَاتِ قُدْرَتَهَا عَلَى القِيَادَةِ وَالتَّأْثِيرِ.
رَابِعًا: نَمُوذَجٌ رَابِعٌ – الإِعْلَامُ وَالمُنَظَّمَاتُ العَابِرَةُ لِلْحُدُودِ كَأَدَاةِ تَهْدِيدٍ صَامِت
فِي نَمُوذَجٍ رَابِعٍ أَكْثَرَ تَعْقِيدًا، يَتَجَسَّدُ التَّهْدِيدُ الصَّامِتُ فِي دَوْرِ بَعْضِ المَنَصَّاتِ الإِعْلَامِيَّةِ وَالمُنَظَّمَاتِ العَابِرَةِ لِلْحُدُودِ، الَّتِي تَعْمَلُ ظَاهِرِيًّا تَحْتَ شِعَارَاتِ الدِّفَاعِ عَنِ الحُقُوقِ أَوِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ أَوِ التَّنْمِيَةِ، بَيْنَمَا تُسْتَخْدَمُ فِي الوَاقِعِ كَأَدَاةٍ لِإِعَادَةِ تَشْكِيلِ الوَعْيِ وَتَوْجِيهِ الصِّرَاعَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ.
فِي هَذَا السِّيَاقِ، لَا يَكْمُنُ الخَطَرُ فِي النَّشَاطِ المُعْلَنِ، بَل فِي الاِنْتِقَائِيَّةِ الإِعْلَامِيَّةِ، وَتَضْخِيمِ أَخْطَاءِ الدَّوْلَةِ مَعَ تَجَاهُلِ السِّيَاقَاتِ، وَتَحْوِيلِ القَضَايَا الدَّاخِلِيَّةِ إِلَى أَدَوَاتِ ضَغْطٍ دُوَلِيٍّ تُقَيِّدُ القَرَارَ السِّيَادِيَّ.
وَفِي بَعْضِ التَّجَارِبِ الإِقْلِيمِيَّةِ، أَدَّى تَشَابُكُ الخِطَابِ الإِعْلَامِيِّ مَعَ تَمْوِيلٍ خَارِجِيٍّ غَيْرِ مُعْلَنٍ إِلَى خَلْقِ نُخَبٍ رَأْيٍ تَعْمَلُ ضِمْنَ أُطُرٍ فِكْرِيَّةٍ لَا تَنْطَلِقُ مِنْ أَوْلَوِيَّاتِ الأَمْنِ القَوْمِيِّ، بَل مِنْ أَجَنْدَاتٍ عَابِرَةٍ لِلدُّوَلِ، مَا سَاهَمَ فِي إِضْعَافِ التَّمَاسُكِ الدَّاخِلِيِّ وَتَأْكِيلِ شَرْعِيَّةِ المُؤَسَّسَاتِ.
وَيُظْهِرُ هَذَا النَّمُوذَجُ أَنَّ الإِعْلَامَ وَالمُجْتَمَعَ المَدَنِيَّ، عِنْدَ غِيَابِ الضَّبْطِ وَالشَّفَافِيَّةِ، يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَوَّلَا مِنْ رَافِعَةٍ لِلاِسْتِقْرَارِ إِلَى أَدَاةِ اِسْتِنْزَافٍ صَامِتٍ لِلدَّوْلَةِ.
خَامِسًا: مَسَارَاتُ السُّقُوطِ الصَّامِتِ لِلدُّوَلِ
لَا تَنْهَارُ الدُّوَلُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَل تَمُرُّ بِمَرَاحِلَ مُتَدَرِّجَةٍ تَبْدَأُ بِتَآكُلِ الثِّقَةِ، وَتَتَصَاعَدُ مَعَ الاِنْهَاكِ الِاقْتِصَادِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، وَتَنْتَهِي بِالعَجْزِ عَنِ المُوَاجَهَةِ عِنْدَ أَوَّلِ أَزْمَةٍ كُبْرَى.
سادسا : نَحْوَ اِسْتِرَاتِيجِيَّةٍ شَامِلَةٍ لِمُوَاجَهَةِ الأَمْنِ القَوْمِيِّ الصَّامِتِ
تَتَطَلَّبُ مُوَاجَهَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّهْدِيدَاتِ نَقْلَةً نَوْعِيَّةً فِي التَّفْكِيرِ الاِسْتِرَاتِيجِيِّ، قَائِمَةً عَلَى بِنَاءِ الوَعْيِ، وَتَحْقِيقِ التَّمَاسُكِ الاِقْتِصَادِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، وَتَعْزِيزِ الثِّقَةِ بَيْنَ الدَّوْلَةِ وَالمُجْتَمَعِ، وَتَحْصِينِ الفَضَاءِ الأَمْنُ الصَّامِتُ كَمَعْرَكَةِ بَقَاء
حيث يُؤَكِّدُ مَفْهُومُ الأَمْنِ القَوْمِيِّ الصَّامِتِ أَنَّ مَعَارِكَ الدُّوَلِ الأَخْطَرَ لَا تُخَاضُ دَائِمًا عَلَى الحُدُودِ، بَل فِي العُقُولِ وَالاقْتِصَادِ وَمِسَاحَاتِ الثِّقَةِ الدَّاخِلِيَّةِ. وَالدَّوْلَةُ الَّتِي تُدْرِكُ ذَلِكَ مُبَكِّرًا، وَتُحْسِنُ تَحْصِينَ جَبْهَتِهَا الدَّاخِلِيَّةِ، تَمْتَلِكُ فُرْصَةً أَكْبَرَ لِلبَقَاءِ وَالفِعْلِ فِي نِظَامٍ دُوَلِيٍّ يَتَسِمُ بِالتَّقَلُّبِ وَعَدَمِ اليَقِين



