لغز “جميلة جميلات مصر التى ظهرت” ثم فجأة اختفت !

في قلب تاريخ مصر القديمة حيث تلتقي أسرار الفراعنة بنهر النيل الخالد، يطل وجه جميل لا يزال يحير المؤرخين ويخطف الألباب بحسنه وغموضه العميقين، إنه وجه الملكة نفرتيتي.
سيدة النيل التي برزت بقوة واختفت بغموض، تاركة وراءها لغزا تاريخيا لم يحل بعد. لا تزال ظروف اختفاء نفرتيتي من صفحات التاريخ واحدة من أعظم الألغاز التي تحير علماء الآثار، ففي لحظة معينة توقف ذكر اسمها فجأة في السجلات والمصادر القديمة، وكأن الأرض انشقت وابتلعتها. لكن هذا الاختفاء المفاجئ لم يكن إلا بداية رحلة البحث الطويلة عن حقيقة هذه المرأة الاستثنائية، التي كانت أكثر من مجرد ملكة جميلة، بل كانت شريكة في الحكم وقوة سياسية ودينية لا يستهان بها.
تتعدد النظريات التي تحاول تفسير اختفائها الغامض، فالبعض يروي أنها أنجبت لزوجها الفرعون إخناتون ست بنات، وعندما توفيت إحداهن، غاصت الملكة في بحر من الحزن والأسى، وفقدت الرغبة في الظهور أمام الشعب أو الانخراط في الشؤون العامة، فاعتزلت الحياة في قصرها وواصلت حياتها في حداد حتى وفاتها.
رواية أخرى تقدم تفسيرا مختلفا يعكس واقع تلك العصور، فبعد أن أنجبت ست بنات دون وريث ذكر، أبعدها الفرعون عن قائمة النساء المفضلات لعدم تمكنها من منحه ابنا يرث العرش، ففقدت مكانتها ونفوذها. لكن هذه التفسيرات تبدو مبسطة أمام عظمة شخصيتها وتأثيرها الذي لا ينكر، فكيف لمثل هذه الملكة القوية أن تختفي بهذه السهولة؟

لقد طواها النسيان لقرون طويلة، حتى جاء ذلك اليوم المصيري في ديسمبر عام 1912 عندما اكتشف عالم الآثار الألماني لودفيج بورشاردت تمثالها النصفي في أنقاض ورشة فنان في مدينة العمارنة القديمة. هذا التمثال أصبح أيقونة للجمال المصري القديم، وأحد أكثر الأعمال الفنية استنساخا في التاريخ. لكن قصة اكتشاف التمثال نفسه تحمل جدليتها الخاصة، فقد نقله بورشاردت سرا إلى ألمانيا وسلمه إلى متحف برلين، ما أثار غضب المصريين الذين طالبوا بإعادة التحفة الفريدة، لكن السلطات الألمانية لم تستجب، ورفض بورشاردت نفسه الرضوخ للإقناع والتهديدات، بل وخشي من لعنة نفرتيتي القاتلة التي روجت لها الأساطير.
كانت نفرتيتي، ويعني الاسم، “الجميلة أتت”، الزوجة الملكية الأولى للفرعون إخناتون، الذي كان يُدعى أمنحتب الرابع قبل أن يغير اسمه، وحكم من حوالي 1353 إلى 1336 قبل الميلاد. لم تكن مجرد زوجة تابعة، بل كانت شريكة حقيقية في الحكم، اكتسبت قوة غير مسبوقة ويعتقد أنها تمتعت بمكانة مساوية للفرعون نفسه.
اشتهرت في جميع أنحاء مصر بجمالها الفاتن، وقيل إنها كانت فخورة برقبتها الطويلة التي تشبه رقبة البجعة، حتى أنها اخترعت مستحضرات تجميل خاصة باستخدام “نبات الجالينا”. وارتبط اسمها أيضا بالخرز الذهبي المستطيل المسمى “نفر”، الذي كانت ترتديه غالبا كرمز لمكانتها.
في الدولة الجديدة التي أسسها إخناتون، حيث أصبح إله الشمس آتون الإله الوطني الرئيس، لعبت نفرتيتي دورا محوريا في الثورة الدينية التي قادها زوجها. أغلق الفرعون المعابد القديمة ورفع من شأن الإله أتون، ممثلا بقرص الشمس. وفي هذا الدين الجديد الذي كان أقرب إلى التوحيد، تم تصوير إخناتون ونفرتيتي كـ “الزوجين الأولين البدائيين” اللذين ينقلان بركات آتون إلى الشعب. وشكل هؤلاء، إخناتون ونفرتيتي وآتون، ثالوثا ملكيا مقدسا، ينتشر من خلاله “نور” الإله إلى جميع الرعايا.

وصلت قوة نفرتيتي إلى ذروتها في عهد إخناتون، وهناك أدلة تشير إلى أنه بحلول السنة الثانية عشرة من حكمه، تمت ترقيتها إلى مرتبة الحاكم المشارك المساوي للفرعون نفسه. تظهر في المنحوتات والرسوم على جدران المعابد وهي بحجم زوجها، ما يدل على مساواتها له في الأهمية.
الأكثر إثارة للدهشة، ظهورها في مشاهد لم تكن مخصصة سابقا إلا للفراعنة، مثل تصويرها وهي تضرب عدوا أجنبيا بصولجان أمام الإله آتون. بل إن شخصيتها منحوتة على الزوايا الأربع لتابوت إخناتون الجرانيتي، حيث صورت كحامية لموميائه، وهو الدور الذي كانت تلعبه تقليديا آلهة مصرية أنثى مثل إيزيس ونفتيس.
لكن المفارقة اللافتة أكثر أن هذه المرأة القوية التي بلغت ذروة النفوذ والسلطة، اختفت فجأة من السجلات التاريخية بعد السنة الثانية عشرة من حكم إخناتون. لم يعد يرد ذكرها في النقوش أو الوثائق. وقد قدم العلماء تفسيرات متعددة لهذا الاختفاء، منها وفاتها بسبب الطاعون الذي اجتاح المنطقة في ذلك الوقت، أو إبعادها عن البلاط الملكي. لكن النظريات الحديثة تدحض هذه الافتراضات، وترجح أن نفرتيتي تولت دور الحاكم المشارك أثناء حكم زوجها أو حتى بعد وفاته. ويعتقد بعض المؤرخين، مثل جاكوبوس فان ديك، أنها أصبحت حاكمة مشاركة حقيقية مع زوجها، بينما انتقل دور الملكة القرين إلى ابنتها الكبرى ميريت آتون.

رغم كل هذه النظريات، يبقى مصير نفرتيتي النهائي لغزا محيرا. فلم يتم العثور على موميائها حتى الآن، ما يضيف هالة أخرى من الغموض إلى قصتها.
لا تزال التماثيل والنقوش التي تظهر جمالها وقوتها تشهد على عظمة هذه المرأة الاستثنائية التي حكمت واحدة من أعظم حضارات العالم القديم. قد تسمح الاكتشافات الأثرية المستقبلية للباحثين والمؤرخين بتطوير نظريات جديدة حول حياتها واختفائها المفاجئ.
تبقى نفرتيتي، بسحرها وغموضها، شاهدة على عصر مضى لكنه لا يزال ماثلا في الذاكرة الإنسانية. تذكرنا أن المرأة في مصر القديمة لم تكن مجرد زينة أو تابع، بل كانت قادرة على الوصول إلى أعلى مراتب السلطة والتأثير. تظل قصتها تثير فضولنا وتدفعنا إلى البحث والتنقيب، عسى أن نكشف يوما ما الستار عن السر الكبير الذي يحيط بمصير سيدة النيل، الملكة التي حكمت بجمالها وحكمتها، ثم اختفت فجأة كما تختفي قطعة أثرية ثمينة تحت رمال الصحراء، تنتظر من يكتشفها من جديد لتحكي له قصتها الكاملة.



