سلسلة أسماء الله الحسنى.. معنى اسم الحق

كتبت سوزان مرمر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لله تسعة وتسعون اسم مائة الا واحدة من احصاها دخل الجنة
معنى اسم الله الحق
الدَّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (الحَقِّ)[1]:
الحَقُّ فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ، فِعْلُهُ حَقَّ يَحِقُّ حَقًّا، يُقَالُ: حَقَقْتُ الشَّيءَ أَحُقُّهُ حَقًّا إِذَا تَيَقَّنْتُ كَوْنَهُ وَوُجُودَهُ وَمُطَابَقَتَهُ لِلْحَقِيقَةِ.
وَالحَقُّ بِمَعْنَى المُطَابَقَةِ وَالمُوَافَقَةِ وَالثَّبَاتِ وَعَدَمِ الزَّوَالِ، وَكَذَلِكَ العَدْلُ خِلاَفُ البَاطِلِ وَالظَّلُمِ.
وَالحَقُّ يُقَالُ لِلِاعْتِقَادِ فِي الشَّيءِ المُطَابِقِ لِمَا عَلَيْهِ فِي الحَقِيقَةِ، كَقَوْلِكَ: أَعْتَقِدُ أَنَّ البَعْثَ وَالثَّوَابَ وَالعِقَابَ وَالجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقٌّ[2].
وَالحَقُّ لَهُ اسْتِعْمَالَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي القُرْآنِ، مِنْهَا الإِسْلَامُ وَالعَدْلُ وَالحِكْمَةُ وَالصِّدْقُ وَالوَحْيُ وَالقُرْآنُ وَالحَقِيقَةُ، وَمِنْهَا أَيْضًا الحِسَابُ وَالجَزَاءُ كَقَوْلِهِ: ﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 25].
وَالحَقُّ اسْمٌ للهِ سُبْحَانَهُ هُوَ المُتَّصِفُ بِالوُجُودِ الدَّائِمِ وَالحَيَاةِ وَالقَيُّومِيَّةِ وَالبَقَاءِ، فَلَا يَلْحَقُهُ زَوَالٌ أَوْ فَنَاءٌ، وَكُلُّ أَوْصَافِ الحَقِّ كَامِلَةٌ لِلْكَمَالِ وَالجَمَالِ، وَالعَظَمَةِ وَالجَلَالِ، قَالَ سبحانه وتعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [الحج: 62]، وَكَقَوْلِهِ: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الحج: 6].
وَالحَقُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الذِي يُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقُولُ الحَقَّ، وَإِذَا وَعَدَ فَوَعْدُهُ الحَقُّ، وَدِينُهُ حَقٌّ، وَكِتَابُهُ حَقٌّ، وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ حَقٌّ، وَمَا أَمَرَ بِهِ حَقٌّ كَمَا قَالَ: ﴿ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 82].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ [الأنعام: 73].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 25][3].
وُرُودُهُ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ[4]:
وَرَدَ الاِسْمُ فِي عَشْرِ آيَاتٍ مِنَ القُرْآنِ، مِنْهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 30].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ﴾ [الكهف: 44].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الحج: 6].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [الحج: 62].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 116].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 25][5].
مَعْنَى الاِسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ يُونُسَ: ﴿ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ﴾[يونس: 30]: “وَرَجَعَ هَؤُلَاءِ المُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ إِلَى اللهِ، الذِي هُوَ رَبُّهُم وَمَالِكُهُم الحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ، دُونَ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُم لَهُمْ أَرْبَابٌ مِنَ الآلِهَةِ وَالأَنْدَادِ، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 30]؛ يَقَولُ: وَبَطَلَ عَنْهُم مَا كَانُوا يَتَخَرَّصُونَ مِنَ الفِرْيَةِ وَالكَذِبِ عَلَى اللهِ بِدَعْوَاهُم أَوْثَانَهُم أَنَّهَا للهِ شُرَكَاءُ، وَأَنَّهَا تُقَرِّبُهُم مِنْهُ زُلْفَى”[6].
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32]: “يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِخَلْقِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ فَهَذَا الذِي فَعَلَ هَذِهِ الأَفْعَالَ؛ فَيَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَيَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ، وَيُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَالمَيِّتَ مِنَ الحَيِّ، وَيُدَبِّرُ الأَمْرَ: اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32]؛ يَقُولُ: فَأَيُّ شَيءٍ سِوَى الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ وَهُوَ: الجَوْرُ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ.
يَقُولُ: فَإِذَا كَانَ الحَقُّ هُوَ ذَا، فَادِّعَاؤُكُم غَيْرَهُ إِلَهًا وَرَبًّا هُوَ الضَّلَالُ وَالذَّهَابُ عَنِ الحَقِّ لَا شَكَّ فِيهِ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ”[7].
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾ [الحج: 62]؛ يَعْنِى تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ: هَذَا الفِعْلُ الذِي فَعَلْتُ مِنْ إِيلَاجِي اللَّيلَ فِي النَّهَارِ، وَإِيلَاجِي النَّهَارَ فِي اللَّيلِ؛ لِأَنِّي أَنَا (الحَقُّ) الذِي لَا مِثْلَ لِي، وَلَا شَرِيكَ، وَلَا نِدَّ، وَأَنَّ الذِي يَدْعُوهُ هَؤُلَاءِ المُشْرِكُونَ إِلَهًا مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ الذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى صَنْعَةِ شَيءٍ، بَلْ هُوَ المَصْنُوعُ[8].
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: “الحَقُّ هُوَ المُتَحقِّقُ كَوْنُهُ وَوُجُودُهُ، وَكُلُّ شَيءٍ صَحَّ وُجُودُهُ وَكَوْنُهُ فَهُوَ حَقٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتعَالَى: ﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ ﴾ [الحاقة: 1، 2]؛ مَعْنَاهُ وَاللهُ أَعْلَمُ: الكَائِنَةُ حَقًّا لَا شَكَّ فِي كَوْنِهَا، وَلَا مُدْفِعٌ لِوُقُوعِهَا.
وَيُقَالُ: الجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، يُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةٌ.
وَالعَرَبُ تَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا الرَّجُلُ حَقَّ الرَّجُلِ، وَالشُّجَاعُ حَقَّ الشُّجَاعِ وَحَاقَّ الشُّجَاعِ وَحَاقَّةَ الشُّجَاعِ، إِذَا أَثْبَتُوا لَهُ الشَّجَاعَةَ وَحَقِيقَتَهَا”[9].
وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: “(الحَقُّ) مَا لَا يَسَعُ إِنْكَارُهُ، وَيَلْزَمُ ثُبُوتُهُ وَالاِعْتِرَافُ بِهِ، وَوُجُودُ البَارِي عَزَّ ذِكْرُهُ أَوْلَى مَا يَجِبُ الاِعْتِرَافُ بِهِ[10]، وَلَا يَسَعُ جُحُودُهُ؛ إِذْ لَا مُثْبَتَ يَتَظَاهَرُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ البَيِّنَةِ البَاهِرَةِ، مَا تَظَاهَرَتْ عَلَى وُجُودِ البَارِي جَلَّ جَلَالُهُ”[11].
وَقَالَ القُشَيْرِيُّ[12]: “(الحَقُّ) مِنْ أَسْمَائِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى المَوْجُودِ الكَائِنِ وَكَذَا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ”[13].
وَقَالَ الغَزَّالِيُّ: “(الحَقُّ) هُوَ الذِي فِي مُقَابَلَةِ البَاطِلِ، وَالأَشْيَاءُ قَدْ تُسْتَبَانُ بِأَضْدَادِهَا، وَكُلُّ مَا يُخْبِرُ عَنْهُ فَإِمَّا بَاطِلٌ مُطْلَقًا، وَإِمَّا حَقٌّ مُطْلَقًا، وَإِمَّا حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهٍ، فَالمُمْتَنِعُ بِذَاتِهِ هُوَ البَاطِلُ مُطْلَقًا، وَالوَاجِبُ بِذَاتِهِ هُوَ الحَقُّ مُطْلَقًا، وَالمُمْكِنُ بِذَاتِهِ الوَاجِبُ بِغَيْرِهِ هُوَ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهٍ”[14].
وَقَالَ ابْنُ الأَثِيرِ: “(الحَقُّ) هُوَ المَوْجُودُ حَقِيقَةً المُتَحَقَّقُ وُجُودُهُ وَإِلَهِيَّتُهُ، وَالحَقُّ ضِدُّ البَاطِلِ”[15].
ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بهَذَا الاِسْمِ:
1- اللهُ تَعَالَى هُوَ الحَقُّ المُبِينُ، لَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ فِي وُجُودِهِ، وَلَا يَسَعُ أَحَدًا إِنْكَارُهُ لِظُهُورِ دَلاَئِلِ إِثْبَاتِهِ، وَكَيْفَ يَخْفَى سُبْحَانَهُ وَهُوَ أَحَقُّ بِاسْمِ (الحَقِّ) مِنْ كُلِّ حَقٍّ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ حَقٌّ فِي ذَاتِهِ، حَقٌّ فِي صِفَاتِهِ حَقٌّ فِي أَقْوَالِهِ، حَقٌّ فِي أَفْعَالِهِ.
يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ رحمه الله تَعَالَى: “الحَقُّ” فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَهُوَ وَاجِبُ الوُجُودِ، كَامِلُ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ، وُجُودُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَلَا وُجُودَ لِشَيءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ الذِي لَمْ يَزَلْ وََلا يَزَالُ بِالجَلَالِ وَالجَمَالِ وَالكَمَالِ مَوْصُوفًا، وَلَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ بِالإِحْسَانِ مَعْرُوفًا.
فَقَوْلُهُ حَقٌّ، وَفِعْلُهُ حَقٌّ، وَلِقَاؤُهُ حَقٌّ، وَرُسُلُهُ حَقٌّ، وَكُتُبُهُ حَقٌّ، وَدِينُهُ هُوَ الحَقٌّ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هِيَ الحَقُّ، وَكُلُّ شَيءٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِ فَهُوَ حَقٌّ.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [الحج: 62]، ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29].
﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32].
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81][16].
2- وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ صَلاَتَهُ مِن اللَّيْلِ بِذِكْرِ هَذَا المَعْنَى، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: “اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ…” الحَدِيثَ[17].
3- وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الإِلَهُ وَالرَّبُّ الحَقُّ، الذِي لَا تَنْبَغِي الأُلُوهِيَّةُ وَالرُّبُوبِيَّةُ إِلَّا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الآلِهَةِ وَالمَعْبُودَاتِ فَبَاطِلٌ زَائِلٌ، وَقَدْ دَلَّلَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالأَدِلَّةِ الوَاضِحَةِ، وَالبَرَاهِينِ الظَّاهِرَةِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الكَرِيمِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 31، 32].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [يونس: 34، 35].
وَقَالَ تَعَالَى آمِرًا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 104].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الحَجِّ: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾ [الحج: 62 – 66][18].
فَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَاتِ – وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ – مِنْ دِلاَئِلِ أُلُوهِيَّتِهِ الحَقَّةِ وَرُبُوبِيَّتِهِ أَمْرًا عَظِيمًا، مِنْ كَوْنِهِ:
• يَرْزُقُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.
• يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ.
• يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَعَكْسُهُ.
• يُدَبِّرُ الأَمْرَ.
• يَبْدَأُ الخَلَقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.
• يَهْدِي إِلَى الحَقِّ.
• يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ.
• يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَعَكُسُهُ.
• يُحْيِي الأَرْضَ بِالمَاءِ وَيُخْرِجُ نَبَاتَهَا.
• يَمْلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا فِيهَا.
• يُسَخِّرُ لِلنَّاسِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.
• يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 11].
4- لَمَّا كَانَ اللهُ هُوَ الحَقَّ وَيُحِبُّ الحَقَّ وَيَأْمُرُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ بَيَانِهِ لِلنَّاسِ، وَإِظْهَارِهِ لَهُم بِأَنْوَاعِ الأَمْثِلَةِ الحِسِّيَّةِ التِي تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الحَقِّ وَقَبُولِهِ، وَالإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ البَاطِلِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26].
وَلاَ يَسْتَحِي مِنَ الأَمْرِ بِهِ وَالحَثِّ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ شُؤُونِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحَهُم فِي مَعَاشِهِم وَمَعَادِهِم، وَفِي تَرْكِ الحَقِّ حَيَاءً أَوْ خَوْفًا أَوْ مُدَاهَنَةً فَسَادُ حَيَاةِ النَّاسِ، وَلَنَا فِي آيَةِ الحِجَابِ عِبْرَةٌ وَعِظَةٌ، فِي التَّمَسُّكِ بِالحَقِّ قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 53].
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي الآيَةِ: “إِنَّ دُخُولَكُم بُيُوتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَجُلُوسَكُمْ فِيهَا مُسْتَأْنِسِينَ لِلْحَدِيثِ بَعْدَ فَرَاغِكُمْ مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ الذِي دُعِيتُمْ لَهُ، كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْهَا إِذَا قَعَدْتُم فِيهَا لِلْحَدِيثِ بَعْدَ الفَرَاغِ مِنَ الطَّعَامِ، أَوْ يَمْنَعَكُمْ مِنَ الدُّخُولِ إِذَا دَخَلْتُم بِغَيْرِ إِذْنٍ، مَعَ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ مَنْكُمْ، وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكُم، وَإِنِ اسْتَحْيَا نَبِيُّكُم فَلَمْ يُبِيِّنْ لَكُمْ كَرَاهِيَةَ ذَلِكَ حَيَاءً مِنْكُمْ”[19].
المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ[20]:
الحَقُّ الذِي خُلِقَتْ بِهِ السَّمَاواتُ وَالأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا، هُوَ حَقٌّ مُقَارِنٌ لِوُجُودِ هَذِهِ المَخْلُوقَاتِ سُطُورًا فِي صَفَحَاتِهِ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُوَفَّقٍ كَاتِبٍ، وَغَيْرِ كَاتِبٍ كَمَا قِيلَ:
تَأَمَّلْ سُطُورَ الكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا
مِنَ المَلَأِ الأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ
وَقَدْ خُطَّ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا
أَلَا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ
وَأَمَّا الحَقُّ الذِي هُوَ غَايَةُ خَلْقِهَا فَهُوَ غَايَةٌ تُرَادُ مِنَ العِبَادِ، وَغَايَةٌ تُرَادُ بِهِم، فَالَّتِي تُرَادُ مِنْهُم أَنْ يَعْرِفُوا اللهَ تَعَالَى وَصِفَاتِ كَمَالِهِ عز وجل، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، فَيَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ إِلَهَهُمْ وَمَعْبُودَهُم وَمُطَاعَهُم وَمَحْبُوبَهُم قَالَ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ العَالَمَ لِيَعْرِفَ عِبَادُهُ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَإِحَاطَةَ عِلْمِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَتَهُ وَمَعْرِفَةَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فَهَذِهِ الغَايَةُ هِيَ المُرَادَةُ مِنَ العِبَادِ وَهِيَ أَنْ يَعْرِفُوا رَبَّهُم وَيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الغَايَةُ المُرَادَةُ بِهِم فِي الجَزَاءِ بِالعَدْلِ وَالفَضْلِ وَالثَّوَابِ وَالعِقَابِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾ [طه: 15]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ﴾ [النحل: 39]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [يونس: 3، 4]، فَتَأَمَّلِ الآنَ كَيْفَ اشْتَمَلَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا عَلَى الحَقِّ أَوَّلًا وَآخِرًا وَوَسَطًا، وَأَنَّهَا خُلِقَتْ بِالحَقِّ وَلِلْحَقِّ وَشَاهِدَةٌ بِالحَقِّ.
وَقَدْ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ هَذَا الحُسْبَانِ المُضَادِّ لِحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحَمْدِهِ فَقَالَ: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 116]، وَتَأَمَّلْ مَا فِي هَذَينِ الاِسْمَيْنِ وَهُمَا المَلِكُ الحَقُّ مِنْ إِبْطَالِ هَذَا الحُسْبَانِ الذِي ظَنَّهُ أَعْدَاؤُهُ، إِذْ هُوَ مُنَافٍ لِكَمَالِ مُلْكِهِ وَلِكَوْنِهِ الحَقَّ، إِذِ المَلِكُ الحَقُّ هُوَ الذِي يَكُونُ لَهُ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَيَتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الفَرْقُ بَيْنَ المَلِكِ وَالمَالِكِ إِذِ المَالِكُ هو المتصرِّفُ بفعِلهِ والمَلِكُ هُوَ المُتَصَرِّفُ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ.
وَالرَّبُّ تَعَالَى مَالِكُ المُلْكِ فَهُوَ المُتَصَرِّفُ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ خَلَقَ خَلَقْهَ عَبَثًا لَمْ يَأَمُرْهُمْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ فَقَدْ طَعَنَ فِي مُلْكِهِ وَلَمْ يَقْدُرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 91]، فَمَنْ جَحَدَ شَرْعَ اللهِ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَجَعَلَ الخَلْقَ بِمَنْزِلَةِ الأَنْعَامِ المُهْمَلَةِ، فَقَدْ طَعَنَ فِي مُلْكِ اللهِ وَلَمْ يَقْدُرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ تَعَالَى إِلَهَ الخَلْقِ يَقْتَضِي كَمَالَ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَوُقُوعَ أَفْعَالِهِ عَلَى أَكْمَلِ الوُجُوهِ وَأَتَمِّهَا.
فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ الحَقُّ فَقَوْلُهُ الحَقُّ وَوَعْدُهُ الحَقُّ، وَأَمْرُهُ الحَقُّ، وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حَقٌّ، وَجَزَاؤُهُ المُسْتَلْزِمُ لِشَرْعِهِ وَدِينِهِ وَلِلْيَوْمِ الآَخِرِ حَقٌّ، فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَمَا وَصَفَ اللهَ بِأَنَّهُ الحَقُّ المُطْلَقُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبِكُلِّ اعْتِبَارٍ، فَكُونُهُ حَقًّا يَسْتَلْزِمُ شَرْعَهُ وَدِينَهُ وَثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالمَلِكِ الحَقِّ أَنَّ يَخْلُقَ خَلْقَهُ عَبَثًا، وَأَنْ يَتْرُكَهُمْ سُدًى لَا يَأْمُرُهُم، وَلَا يَنْهَاهُمْ، وَلَا يُثِيبُهُم، وَلَا يُعُاقِبُهُم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]، قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: “مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى”، وَقَالَ غَيْرُهُ: “لَا يُجْزَى بِالخَيْرِ وَالشَّر



