إرتفاع الوعى المجتمعى والبحث عن الجذور الثقافية داخل المواطن المصرى وتأثير إفتتاح المتحف المصرى الكبير عليه وعلى المجتمعات الأجنبية

إعداد : د/شيماء المتعب
رئيس التحرير :د/ سعيد زينهم
شهد المجتمع المصرى فى السنوات الأخيرة حالة نادرة من إعادة اكتشاف الذات والبحث عن الجذور، إلا أن افتتاح المتحف المصرى الكبير كان هو اللحظة المفصلية التى نقلت هذا الشعور من مستوى العاطفة إلى مستوى الإدراك الرسالى العميق. فقد تحول المتحف من مشروع معمارى ضخم إلى نقطة تحول حقيقية فى وعى الشعب المصرى، وركيزة أعادت تعريف علاقة المصريين بتاريخهم، ليس بإعتباره ماضياً للعرض أو التراث الفرعونى فقط، بل باعتباره هوية حية، ومرجعية فكرية، وقيمة حضارية تتجاوز حدود الزمن.
فالمتحف خلق حالة صحوة داخل كل فرد.. جعل المواطن يسأل نفسه: من نحن؟ ولماذا هذا الثراء الحضارى موجود لدينا وحدنا؟ وكيف وصلت مصر لهذا العمق الإنسانى بين الأمم؟
وبدلاً من ثقافة الاستهلاك السطحى للنماذج الثقافية الغربية، أصبح أمام المصريين نموذجهم الأصلى الذى يملكه التاريخ، ويملكه العلم، وتملكه الأرض. فتحول المتحف إلى فضاء تعليمى ومعرفى يُعيد بناء الانتماء والوعى والثقة والهوية فى ضمير المواطن.
وفى المقابل، أحدث المتحف المصرى الكبير صدمة ثقافية لدى المجتمعات الأجنبية، إذ نقل مصر من خانة “حارس آثار قديمة” إلى دولة قادرة على إدارة وعرض تاريخ الإنسانية الأولى بمنهج علمى حديث يتفوق على نماذج عالمية.
فبدأت جامعات العالم ومراكز البحث والمتخصصين فى التاريخ القديم والآثار أن ينظروا للحضارة المصرية كمنظومة ليست فقط ماضياً، بل أساساً معرفياً مؤسساً للبشرية ذاتها.
وانتقل الغرب من مرحلة الإنبهار الفرجة إلى مرحلة إعادة الإعتراف بمكانة مصر الحضارية فى ميزان العالم.
وبذلك تحقق التوازن الجديد:
فى الداخل ارتفع مستوى الوعى لدى المجتمع المصرى واستعاد ثقته وجذوره وهويته.
وفى الخارج اضطرت المجتمعات الأجنبية إلى إعادة احترام مصر من منطلق القوة الحضارية وليس من منطلق السياحة التقليدية.
إن افتتاح المتحف المصرى الكبير لا يُعد حدثًا افتتاحيًا عادياً بل بداية عصر جديد من استعادة الدور، وصناعة معنى حضارى معاصر، وتثبيت مكانة مصر مرة أخرى فى مقدمة خريطة الوعى الإنسانى العالمى.
هذه ليست لحظة تذكارية..
هذه بداية عصر جديد تستعيد فيه مصر توازنها، مكانتها، وريادتها الثقافية العالمية.
إن افتتاح المتحف المصرى الكبير ليس محطة عابرة فى التاريخ المعاصر لمصر، بل هو بداية صفحة حضارية جديدة تعيد صياغة علاقة المصريين بذاتهم وبحضارتهم وبالعالم. فاليوم تعود مصر لتقدم النموذج من جديد.. تقدم المعرفة لا من موقع التابع وإنما من موقع الأصل المؤسس. أصبح المتحف بوابة لإحياء الوعى واستعادة الدور ورسالة مفتوحة تعلن أن الحضارة ليست زمانًا مضى، بل مشروع دائم يتجدد فى الوعى والإنجاز والقدرة على صياغة المستقبل.
لقد تحرك الوعى الجمعى داخل الشعب المصرى من مستوى الشعور الفخرى إلى مستوى الوعى العلمى المتجذر. عاد المواطن يدرك قيمة ما يملك ويقارن بين التاريخ الذى ورثه والعصر الذى يصنعه. ونشأت حالة إدراك بأن ما تمتلكه مصر ليس مجرد آثار أو ذاكرة.. لكنه رأس مال حضارى أصيل يُبنى عليه اقتصاد، وسياسة، وتعليم، ودور ثقافى عالمى.
وفى المقابل اهتزت الصورة النمطية لدى المجتمعات الأجنبية، لأن المتحف كشف أن مصر ليست بلدًا يعيش على مجد الماضى، بل بلد قادر على قراءة هذا الماضى وفق معايير العلم الحديث وتقديمه للعالم نفسه بمنهج تفوقى لا ينافس فيه أحد. فتغيرت زاوية النظر الدولية، وبدأ العالم يدرك أن مصر لا تحفظ تاريخها فقط.. بل تديره وتنتجه وتعيد تعريفه للإنسانية كلها.
وهكذا يصبح المتحف المصرى الكبير نقطة إلتقاء بين ما كان.. وما سيكون.
جسرًا يربط بين أصل حضارى ولد هنا، ودور عالمى يسير من هنا، وقيمة ثقافية تعود لتحتل مكانها الطبيعى فى مقدمة الحضارة البشرية. إن هذا المتحف ليس بناءً حجرياً ضخماً، بل إعلان مستمر عن أن الحضارة المصرية مازالت قادرة أن تُعلّم وأن تُلهِم وأن تقود العقل الإنسانى من جديد نحو العمق والمعنى والبحث والدهشة والوعى.
إن مصر تبدأ من هنا مرحلة جديدة من تاريخها الثقافى.. مرحلة عنوانها:
استعادة المعنى قبل استعادة المكان.. وصناعة المستقبل من جذور الحضارة نفسها.
ستظل مصر دائما منارة العالم ووجتها الثقافية الأولى على مر العصور



