الشاعرة والأديبة مها حمقة تكتُب : حَرِّرْ عَقْلَك

عَلَى الرَّغْمِ مِن كُلِّ الاِكتِشافاتِ العِلمِيَّةِ وَالتِّكنولوجيَّةِ العَظِيمَةِ الَّتي بَلَغَها العِلمُ حَتّى عَصرِنا الحاضِر، وَالَّتي غَيَّرَت مَسارَ البَشَرِيَّةِ نَحوَ التَّطَوُّرِ وَسَهَّلَت عَلَيها سُبُلَ الحَياةِ، إِلّا أَنَّ الكَونَ ما زالَ يَكتَظُّ بِالأسرارِ الَّتي لَم تُكشَف بَعدُ.
وَأَعظَمُ هٰذِهِ الأسرارِ الَّتي ما زالَت مَخفِيَّةً: سِرُّ النَّفسِ
البَشَرِيَّةِ.
تِلكَ النَّفسُ الَّتي لَم يَقدِرِ العِلمُ عَلَى فَكِّ شِفراتِها أَوِ التَّوصُّلِ إِلى جَوهَرِها.
فَكَيْفَ بَدَأَت؟ وَما أَصلُها؟ وَمِن أَينَ مَصدَرُها؟ وَإِلى أَيِّ سَبيلٍ تَعود؟.. أَسئِلَةٌ طالَما حَيَّرَتِ العُلَماءَ وَلَم يَجِدوا لَها جَوابًا.
وَلِأَنَّ الإِنسانَ لَم يَستَطع أَن يُدرِكَ حَقيقَةَ ذاتِه، فَإِنَّ كُلَّ تِلكَ الاِكتِشافاتِ لَيسَت إِلّا أَوهامًا صَنَعَها العَقلُ المُبَرمَج، لا العَقلُ الحَقيقِيُّ الَّذي هُوَ الجَوهَرُ.
وَهٰذا الجَوهَرُ هُوَ الرِّوايَةُ الكامِلَةُ لِأَسرارِ الكَونِ وَكُنوزِهِ العِلمِيَّةِ الَّتي لا تُقَدَّرُ بِثَمنٍ.
الفَرقُ بَينَ العَقلِ الحَقيقِيِّ وَالمُبَرمَج شاسِعٌ: فالأَوَّلُ هُوَ المُطلَقُ الكامِنُ فِينَا، بِهِ وُجِدَ كُلُّ مَوجُودٍ. إِنَّهُ الكَونُ الأَزَلِيُّ الباقي إِلى سَرمَدٍ.
أَمَّا العَقلُ المُبَرمَجُ، فَهُوَ الصُّندوقُ الَّذي يَحتَوِي الأَفكارَ وَالقَوانينَ وَالشَّرائِعَ البَشَرِيَّةَ المُزَيَّفَةَ.. وَهُوَ الَّذي نَصَبَ بَينَنا وَبَينَ ذَواتِنا حَواجِزَ شائِكَةً، وَمَحا ذاكِرَتَنا، حَتّى نَسِينا السَّجينَ القابِعَ فِينَا، وَظَنَنّا أَنَّنا مَخلوقاتٌ عاجِزَةٌ عَن صُنعِ المُعجِزاتِ.
وَلِكَي نَبلُغَ جَوهَرَ الحَقيقَةِ وَنَكشِفَ أَسرارَ الكَونِ الخَفِيَّةِ، عَلَينا أَوَّلًا أَن نَكشِفَ أَسرارَ ذَواتِنا، لأَنَّها البَابُ الَّذي يُفضِي إِلى أَعظَمِ الحَقائِقِ.
أَنتَ أَعظَمُ حَقيقَةٍ فِي الكَونِ.
إِنَّكَ السِّرُّ وَواجِدُ كُلِّ الأَسرارِ. أَنتَ البَيِّنُ وَالخَفِيُّ، أَنتَ الوَعيُ وَاللّاوعي، أَنتَ كُلُّ زَمانٍ وَمَكانٍ.
أَنتَ المَوجُودُ وَاللّامَوجُودُ، المَحدودُ وَاللّامَحدودُ، أَنتَ كُلُّ الوُجودِ، لأَنَّكَ المُطلَقُ.. الأَزَلِيُّ.. الأَبدِيُّ.
أَنتَ الحَقيقَةُ المُطلَقَةُ، وَكُلُّ ما وُضِعَ مِن قَوانينَ فِي هٰذا العالَمِ لَيسَ إِلّا حَواجِزَ وَهمِيَّةً تَفصِلُكَ عَن ذاتِكَ، وَكُلُّ حِجابٍ مِنها يَزيدُكَ بُعدًا عَن جَوهَرِكَ.
وَفِي ذٰلِكَ يَكمُنُ سِرُّ المُؤامَرَةِ: مُؤامَرَةُ سَلاطينِ الدُّساتِيرِ الاستِبدادِيَّةِ لِاستِغباءِ البَشَرِيَّةِ وَاستِعبادِها. إِنَّ عَقلَكَ المُبَرمَجَ هُوَ عَدُوُّكَ المُستَتِرُ تَحتَ قِناعِ الصَّديقِ الصَّدوقِ.
وَهُوَ الَّذي دَمَّرَكَ وَحَوَّلَكَ إِلى سِلعَةٍ فِي سُوقِ الوَهمِ.
فَحَرِّر عَقلَكَ الحَقيقِيَّ مِن كُلِّ قَيدٍ فَرَضَتهُ النُّفوسُ الخَبِيثَةُ عَلَيكَ. تَمَرَّد عَلى سَجّانِكَ وَحَطِّم جُدرانَكَ. حَرِّر طائِرَكَ وَدَعهُ يُحلِّقُ عالِيًا. حِينَها سَتَعلَمُ أَنَّكَ سِرُّ جَميعِ الأسرارِ، وَأَنَّكَ لَم تَكُن أَنتَ أَبَدًا، بَل كانَ هٰذا العالَمُ كُلُّهُ صُورَةً وَهمِيَّةً صَنَعَها العَقلُ المُبَرمَجُ الخاضِعُ لِلقَوانينِ البالِيَةِ.
ذٰلِكَ العَقلُ الَّذي يَرى
مخ
فِي المَوتِ وَالحَياةِ حَقائِقَ، وَيُنكِرُ أَزَلِيَّةَ الذاتِ وَسَرمَدِيَّتَها، لأَنَّهُ عَقلٌ مُقيَّدٌ لا يَستَطيعُ أَن يَتَجاوَزَ حُدودَ أَنظِمَةِ تُجّارِ الجَهلِ الَّذينَ تَسَلَّطوا عَلى مَصِيرِ البَشَرِيَّةِ كافَّةً.
مها حمقة



