العقل العربي بين الرغبة في الصواب وفقدان البوصلة

بقلم: بهجت العبيدي

يتعين على كل فرد، أو بالأحرى مجموعة عبر التاريخ، صياغة سردية ذاتية يعيش من أجلها. وكلما اتسمت هذه السردية بالاتساق والانسجام، زادت قدرة الفرد على التماهي معها، وتمكنت الجماعات من تحقيق طموحاتها وأهدافها.
ألاحظ أنه بعد قيام الدولة الوطنية الحديثة في منطقتنا العربية، ظهرت سرديتان رئيسيتان: السردية الدينية ذات الجذور التاريخية العميقة، والسردية الوطنية الأحدث عهدا. قد يرى البعض عدم وجود تقاطع بين هاتين السرديتين، وربما كان التوفيق بينهما ممكنا بعد إجراء بعض التعديلات. إلا أن الواقع يشير إلى وجود اختلافات جوهرية بين التيارين اللذين يمثلان هاتين السرديتين، وهما في حالة صراع مستمر، يتجلى ليس فقط في الصراع المادي الواضح في العديد من الدول، بل أيضاً في صراع فكري يسبق ذلك الصراع المادي.

في كل مرحلة تحول في المنطقة العربية، يظهر التنافس بين هذين الاتجاهين الفكريين، مع تبدل مواقعهما، ولكنهما يشتركان في السلوك: كلاهما يركز على إثبات صحة وجهة نظره أكثر من تركيزه على تحقيق الصالح العام. ولتوضيح ذلك، يمكننا أن نأخذ مثالين بارزين في الوضع الراهن: المثال الأول هو النظام السوري الحالي الذي يرفضه بشدة تيار السردية الوطنية، والمثال الثاني هو اتفاق غزة الذي قوض تصوّرات، أو بالأحرى طموحات، تيار السردية الدينية.

في ظل التطورات الراهنة التي تشهدها الساحة السورية، يبرز تيار يتبنى سردية “وطنية” سريعة في إعلان فشل أي تجربة جديدة قبل أن تبدأ.

 

هذا التيار، الذي يعتمد على لغة اليقين المطلق، يستند في رؤيته إلى خبرات الماضي التي علمته الحذر من أي تجربة مماثلة للحكم السوري الجديد، وكأن الذاكرة العربية لا تستمد قوتها إلا من الإخفاقات. يقوم هذا التيار بتحليل أي هفوة محتملة لبناء حكم نهائي: التجربة محكوم عليها بالفشل، حتى قبل أن تبدأ.

 

في المقابل، نجد تيار السردية الإسلامية يعارض أي اتفاق محتمل بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، رافضًا فكرة التفاهم من أساسها، ومتمسكا بمقولة ثابتة: “اليهود لا عهد لهم.”

ومع ذلك، يشير الواقع الحالي إلى أن الالتزام بالعهود يمثل مسألة تتعلق بالدول التي تحكمها المصالح والمؤسسات، وليس بالضرورة مسألة دينية. فالأديان، على اختلافها، تضم أفرادًا ملتزمين بالعهود وآخرين يخالفونها. ومن الإنصاف القول إن التاريخ الحديث قدّم أمثلة عديدة على التزام الدول باتفاقياتها، حتى مع خصومها، للحفاظ على توازن المصالح والاستقرار، كما يتضح في التزام إسرائيل “وهم يهود” بمعاهدة السلام مع مصر الموقعة عام 1979.

بالنسبة لنا، تكمن المشكلة الأساسية في أن كلا الطرفين يسعيان إلى إثبات صحة وجهة نظرهما من خلال تمني فشل الطرف الآخر، وليس في مجرد اختلاف وجهات النظر.

حيث يتوقع مؤيدو الرواية الأولى أي تعثر ليقولوا: “ألم نكن على صواب؟”، بينما ينتظر مؤيدو الرواية الثانية انهيار أي اتفاق ليؤكدوا: “ها قد تحققت رؤيتنا!”. في كلتا الحالتين، يتضرر الشعب، سواء كان سوريًا أو فلسطينيًا، بينما يتحول الخلاف الفكري إلى صراع لإثبات الذات بدلًا من العمل على تحسين الواقع.

تعتبر هذه الأزمة متعددة الأبعاد، ولا تقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل تمتد لتشمل أزمة فكرية عميقة. إنها تمثل تحديًا لـ “العقل العربي” الذي لم يتمكن بعد من التحرر من قيود التعصب الفكري، والذي يرى في المراجعة الفكرية ضعفا، وفي الاعتراف بالخطأ خسارة.

 

هذا العقل يرفض الانفتاح على التعلم، لأن التعلم يتطلب التواضع أمام الحقائق، والتي – في نظر المتعصبين – لا يمكن إدراكها إلا من خلال وجهة نظرهم الخاصة.

لقد حان الوقت للانتقال من مرحلة التنافس حول الصواب والخطأ إلى مرحلة البحث عن الحلول وتحقيق المصلحة العامة. يجب التعامل مع السياسة كأداة لإدارة الممكن، وليس كصراع دائم لتصفية الحسابات.
كما ينبغي علينا إدراك أن النجاح المشترك يتجاوز الانتصار الفردي، وأن بناء الوطن يتطلب العمل الجاد وليس الجدل، والنهوض به يتطلب الإيمان بالإصلاح بغض النظر عن التحديات.

 

إن العقل الذي يسعى لأن يكون على صواب أكثر من سعيه لتحقيق الفائدة، هو عقل قد يربح النقاش ولكنه يخسر الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى