السابع من أكتوبر في الميزان: من رصاصة الغضب إلى طاولة التفاوض

بقلم: بهجت العبيدي
في مثل هذا اليوم من عام 2023، استيقظ العالم على وقع هجومٍ مباغت شنّته حركة حماس ضد إسرائيل.
عملية عسكرية بدت في ساعاتها الأولى مفاجأةً قلبت موازين القوى، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى مأساة إنسانية غير مسبوقة.
فمن لحظةٍ كان يُنظر إليها كبداية لتحرير محتمل، انقلبت الصورة إلى قطاع مدمّر، ومدن مسحوقة، وشعب مشرّد يعيش واحدةً من أقسى الكوارث في التاريخ الحديث.
لا أحد ينكر أن مقاومة الاحتلال حقٌّ أصيل أقرّته الشرائع السماوية والمواثيق الدولية.
فمن يُنتزع من أرضه لا يملك إلا أن يقاوم لاستردادها.
لكن هذا الحق لا يُمارَس بالعاطفة وحدها، بل بحسابٍ دقيقٍ للمآلات.
فالمقاومة الواعية توازن بين الهدف والقدرة، بين الدم والسياسة، أما المغامرة غير المحسوبة فتقود أحياناً إلى انتحارٍ جماعي باسم البطولة.
لقد أثبتت السنتان اللتان تلتا السابع من أكتوبر أن البطولة وحدها لا تكفي، وأن القرار المقاوم إذا افتقد الرؤية الاستراتيجية، تحوّل إلى فخٍّ يجرّ الأمة إلى الخراب.
وها هو القطاع اليوم شاهدٌ على ما يمكن أن تفعله “النية الصادقة” حين تُنفَّذ دون تقديرٍ لموازين القوى أو لرد الفعل المتوقع من عدوٍّ لا يعرف حدودا للانتقام.
فبعد عامين من ذلك اليوم، تُعقد الآن في مدينة شرم الشيخ المصرية مفاوضات غير مباشرة بين وفدي حماس وإسرائيل، برعاية مصرية وبدعم أمريكي وقطري، لمناقشة بنود خطة ترامب التي كانت تُوصف سابقاً بـ”صفقة القرن”.
الخطة التي رُفضت يوما بشدة، أصبحت اليوم محور النقاش حول مستقبل غزة.
فقد وافقت حماس مبدئيا على بعض بنودها، وخاصة تلك المتعلقة بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، بينما تبقى القضايا الجوهرية مثل نزع السلاح والحكم في غزة موضع جدلٍ وتفاوض محتدم.
وهنا تكمن المفارقة المريرة: بعد كل هذا الدمار والخراب والدماء، تجلس حماس اليوم لتبحث كيفية تنفيذ الخطة التي حاربتها بالأمس.
كأن التاريخ أراد أن يقول لنا إن السياسة حين تغيب عن ساحة المقاومة، تعود إليها مثقلة بالدم لتتفاوض على ما رفضته بالسلاح.
إن ما يجري اليوم في شرم الشيخ ليس مجرد جولة تفاوضية، بل هو النتيجة الطبيعية لفعلٍ لم يُحسب بدقة قبل وقوعه.
فحين تُطلق الرصاصة دون رؤيةٍ لما بعدها، يكون لا مفر من أن يُستبدل صوتها لاحقا بحديث على طاولة التفاوض.
وهكذا انتقلت المقاومة من ميدان النار إلى ميدان الورق، ومن منطق القوة إلى منطق التسويات، بحثا عن مخرج من جحيم صُنِع بعملية حمساوية كما صُنِع بعدوان إسرائيلي.
إن المقاومة لا تُقاس بعدد الصواريخ التي تُطلق، بل بعدد الأرواح التي تُنقذ، وبحجم الكرامة التي تُصان.
أما حين يتحوّل الوطن إلى أنقاضٍ، والشعب إلى ضحيةٍ دائمة، فلا بد من مراجعة جريئة – أظن أن هذا ما يحدث الآن – تفرّق بين المقاومة الواعية والمجازفة المدمّرة.
السابع من أكتوبر سيبقى يوما فاصلا في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لكنه أيضا درسٌ في كيفية أن يتحوّل الفعل المقاوم من طاقة تحرير إلى كارثة إنسانية حين يغيب عنه الحساب السياسي.
وما يزيد من قساوة الواقع أن السابع من أكتوبر، بعد كل هذا الدمار، لم يعد يوما للاحتفال أو الفخر، بل يوما للتأمل في نتائج الفعل ودرس العواقب.
وها هي حماس، بعد عامين من الدماء، تجلس على طاولة كانت تراها خيانة، تناقش بنود خطة كانت ترفضها بشراسة، ليُصبح الجدال السياسي هو الساحة التي تُقاس فيها المقاومة الآن.
إن التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يُذكّرنا دوما بأن الوعي يجب أن يسبق الفعل، وأن المقاومة التي لا تزن نتائجها قد تكتب مآسي شعبها بيدها.
فالكرامة لا تُصان بالشعارات، بل بالحكمة التي تحافظ على الوطن ليبقى قادرا على الحلم بالتحرير.