الإتّحاد وسرديّة الهرّ الأسود

 

بقلم د. ليلى الهمامي
أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن

ثمّة قول مأثور في الساحة السياسية التونسية يَنصح السياسيين بأن يتجنبوا كل توتّر وكل مناكفة مع المركزية النقابية، التي تقوم مقام الهرّ الأسود في الساحة الاجتماعية والسياسية: نفوذ خارق وسلطة وراء السلطة… دولة وسط الدولة… وسلطة في الدولة ومن ورائها.

ليس الاتحاد العام التونسي للشغل مجرد نقابة… وليس الاتحاد العام التونسي للشغل مجرد رقم ضمن ما اصطلح على تسميته بالاجسام الوسيطة. فالاتحاد نشأ وترعرع في شراكة مع الحزب الدستوري، ضمن تكتّل سياسيّ واجتماعيّ، واجه المستعمر واقتحم مجال بناء الدولة الحديثه دولة الاستقلال.

لم يكن الاتحاد العام التونسي للشغل في يوم من الايام خارج السياق السياسي، ولا بعيدا عن كواليس الحكم… فمن فرحات حشاد الذي ناب عن القيادات الدستورية أيام ايقافها وشتاتها، الى الزعيم الحبيب عاشور الذي كان منتشلا بورقيبة في مؤتمر صفاقس في مواجهة صالح بن يوسف.

في سردية الحركة النقابية التونسية، ثمة تخاصر بين النقابي والسياسي!!!
إذا كان الاتحاد قد أسس نفوذه في كواليس الحكم، باعتباره الكتلة الاجتماعية داخل تحالف السلطة، فان فك الارتباط بالحزب الاشتراكي الدستوري والخروج عن سلطته المباشرة، في ذلك الانفصال العضوي الذي افضى الى المواجهة الدموية في 26 جانفي 1978؛ طلاق عنيف مكّن الاتحاد بعد المناورات الفاشلة للسلطة آنذاك من التشكل كقطب موازٍ للحزب الحاكم، وكسلطة مضادة تستقطب من حولها مكونات المجتمع المدني وفعالياته… حيث انتقل الكيان النقابي من جسر السلطة نحو الساحة الاجتماعية الى ملجا القوى اليسارية التي عطبها عزف النظام الحاكم.

لقد اكتسب الاتحاد بفضل مواجهته مع السلطة اشعاعا استثنائيا داخليا وخارجيا خلال ثمانينات القرن الماضي، حتى أن توتر العلاقة بين حبيب عاشور ومحمد المزالي خلال سنه 1985 كان من الاسباب المباشرة لسقوط الحكومة ولصعود بن علي الى قمرة قيادة الحكومة.

ولم يكن حضور الاتحاد خلال المرحلة النوفمبرية لحكم بن علي حضورا بارزا، حيث التزمت قيادته المساحة التي رسمها لها ساكن قرطاج… فباستثناء بعض التحركات القطاعية المحدودة والمحسوبة، لم تسجل الساحة الاجتماعية اي تصعيد حقيقي من طرف الاتحاد تجاه السلطة.

خصوصية الاتحاد تكمن تحديدا في الدور السياسي الذي انتزعه لنفسه من خلال طرح القضايا القومية من منطلقات ايديولوجية، بعيدة كل البعد عن دوره الطبيعي النقابي وعن مقتضيات الحياد السياسي التي من المفروض ان تطبع وان تميز حضوره كاتحاد وعمله. حيث دعم الاتحاد النظام العراقي تحت قيادة صدام حسين خلال حرب الخليج الثانية ثم امتنع في نفس الفترة عن ادانة احتلال الجيش العراقي للكويت.

واذا كانت القضية الفلسطينية موضوع اجماع الساحة السياسية التونسية، فان الموقف من النظام العراقي ومن احتلال الكويت كان مجال جدل واختلاف في عموم الساحة السياسية التونسية والعربية.

2011 الربيع العربي وانقلاب الاتحاد على حقبته النوفمبرية، حيث اعتُبر الاضراب العام ل 14 جانفي المقفز الذي أهّله لأداء دور المرجع التحكيمي الذي تلتجأ إليه الاحزاب السياسية من أجل التوافق والبحث عن القواسم المشتركة.

وأدى الاتحاد بالفعل هذا الدور خلال تشكيل الحكومة الانتقالية الاولى، حيث ساهم في اقصاء أنصار النظام السابق وحلفائه، وتقديم نفسه كطرف حيوي في الانتقال الديمقراطي… والحال أنه كان ركيزة من ركائز المنظومة النوفمبرية. والواقع أن دور الاتحاد ومكانته، كان فعليا نتاج ضعف وتنازلات الاحزاب السياسية التي يتراجع تأثيرها وتعجز قياداتها عن حل أزماتها.

لقد مثل تزعم الاتحاد للكوارتات الراعي للحوار والحاصل على جائزة نوبل للسلام من مركز المرجع التحكيمي في الساحة السياسية. فالحوار الوطني الذي رعاه الاتحاد كان انقاذا للربيع العربي على حساب عدد من الشهداء الذين طالتهم يد الارهاب.

لقد نجى الاسلام السياسي خلال ازمة 2013 بفضل انخراط الاتحاد في عملية مقايضة دم الشهداء بمقعد رئاسة الحكومة بالقصبة (تشكيل حكومة مهدي جمعة) . ليس ثمة بطولة يمكن ان يدعيها الاتحاد لنفسه فيما بعد 2011. ولم تكن التوترات التي طبعت علاقته بالسلطة (حكومة يوسف الشاهد) الا حالات عابرة، فقد خلالها الاتحاد جزءً كبيرا من إشعاعه ورصيدا هاما من قدراته.

الازمة الحقيقية للاتحاد ولدت ونمت في ظل دوره الداعم للربيع العربي. فكل الاطراف التي سعى الاتحاد جاهدا الى حمايتها ورفد دورها، سعت في الواقع لضربه وتقليص نفوذه، فكان الموقف من 25 جويلية بمثابة الحملة الانتقامية على الاسلام السياسي وعلى منظومة 14 جانفي في كليتها.

قصور النظر في رؤية قيادة الاتحاد تكمن في كونه لم يستوعب طبيعة السلطة الجديدة ولا الايديولوجيا التي تستند اليها. إذ حاول أن يكون مرةً أخرى راعي حوار… ووسيطا ووكيلا لمن هو خارج المشهد.

بالقفز في مجهول 25 جويلية، فقد الاتحاد حلفاء الامس، ولم يمسك الا بالسراب طلبا لحلف جديد. وعلى الرغم من أن رسائل قرطاج الى بطحاء محمد علي لم تكن قليلة لتفهمه بأن دور المرجع التحكيمي كمركز قوة في البلاد اصبح مرفوضا وغير مقبول، وان عليه الاصطفاف والخضوع لنفس التمشي والمنهاج الذي خضعت له الاطراف الاخرى جميعها، لم يكن في حسبان الاتحاد ان تكون السل خارجة ثقافة تقديسة… فكانت ماساته مضاعفة، حيث قطع جسور التواصل مع منظومة 14 جانفي دون أن يحصل على ضمانات شراكة مع السلطة الجديدة.

لم يعد الاتحاد كما كان من قبل او لعل الراهن اختلف نوعيا عن الماضي. لكن المؤكد في كل ما جرى، وبقطع النظر عن السيناريوهات الممكنه، فان الاتحاد لن يكون كما كان مركز قوة، ولن يؤدي مجددا دور الوساطة والتحكيم الذي مارسه طيلة سنوات… وان استمر فلن يعود ذلك البعبع الذي تعودت ان تَقرأ له السلطة الف حساب.

وبقطع النظر عن سعي السلطة لضرب مواقع النفوذ المضادة في المجتمع، فإن كل إصلاح هيكلي لمؤسسات الدولة وللقطاعات التابعة لها، سيكون بمثابة تقليم أظافر الاتحاد. فإصلاح المؤسسات العمومية، وترشيد نماذج التصرف داخلها، والغاء الامتيازات الخاصة بتمثيل الاتحاد في الهيئات القيادية لتلك المؤسسات، والغاء نظام الاقتطاع الآلي، ومعالجة ملف المتخلد بذمة الاتحاد لفائدة الصناديق الاجتماعية، من شأنها أن تقلص حجم التنظيم النقابي الذي سيواجه، ضرورةً، أزمة وجود.

لم يكن تحرك الخميس 21 اوت 2025 مبهرًا، ولم يحدث تلك الرجة التي راهنت عليها عديد الاطراف لاحراج السلطة، فكان مجرد تحرك يذكّر فقط، بأن الاتحاد لا يزال موجودا، وأنه في وضع دفاعي، بعد ان فقد انيابه…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى