دينا كرم الدين تكتب:  قصة فاروق والقلعة المائلة

 

في مدينة بعيدة لم يكن لها اسم كان هناك رجل اسمه (فاروق ) كان يحلم أن يبني قلعة عظيمة لا تشبه أحدا ..ولا تضاهى في مجدها قلعة أخرى ..(فاروق)لم يكن يملك الكثير لكنه كان يملك حماسا يشعل الأرض تحت قدميه ..وكان يؤمن أن الحب وحده يكفي لبناء المعجزات ..أعطى مفاتيح القلعة لأقرب الناس إلى قلبه لم يسألهم يوما عن خبرتهم …ولا عن معرفتهم ولا عن قدرتهم …كان يرى الوجوه المبتسمة فيصدق… وكان يسمع الكلمات الجميلة فيطمئن .

مرت الأيام وكبرت القلعة لكنها كبرت بشكل غريب ..جدرانها كانت تميل يمينا وشمالا والبوابات كانت تصرصر مع أول هبة ريح وكان كل من حول فاروق يقولون له لا تقلق كله بخير القلعة صامدة القلعة عظيمة لكنه وحده حين كان يسير ليلا كان يسمع الشقوق تتنفس وكان يلمح الثقوب تنمو على الجدران كأورام خفية …تجاهل الإشارات مرة وثانية وثالثة وقال في نفسه ربما هي أوهام …ربما القلعة بخير يكفي أنني أراها قائمة أمامي …لم يعرف أن الشروخ الصغيرة لا ترحم ..وأنها حين تصمت فإنها تدبر لانفجار مدوى لا يظهر إلا حين تكون العودة مستحيلة

وهكذا في يوم لم يتوقعه أحد سقطت القلعة كلها في لحظة واحدة دون سابق إنذار ..لم تسقط بجيوش مهاجمة.. ولم تنهار تحت قنابل قوية ..بل سقطت من داخلها.. سقطت لأن التفاصيل الصغيرة التي تجاهلها أصبحت ثقيلة على الحلم الذي بُني على ثقة بلا عقل… ومحبة بلا تدقيق… في عالم القيادة الثقة عملة نادرة …ولكن حين تختلط الثقة بالاستسهال يتحول النصر إلى هزيمة صامتة لا يسمع صداها إلا حين ينهار كل شيء …

(فرق ولا تسد) ليست مجرد عبارة بل درسا عميقا في فنون الإدارة والحياة ليس كل من منحته الثقة قادرا على حملها…حين يضع القائد ثقته العمياء في شخص بلا دراية حقيقية ويغمره بالصلاحيات والإمكانات ظنا أن من حوله سيكملون النقص فإنه يصنع قنبلة موقوتة بيده… القائد الحقيقي هو من يمنح الثقة دون أن يخلع عقله…. ومن يفتح الأبواب دون أن يترك المفاتيح في يد من لا يعرف معنى الباب أصلا

إن الخطأ ليس في منح الفرص بل في الاعتقاد أن الفرصة وحدها تصنع الكفاءة… أن تثق بشخص لا يملك الدراية الكاملة يعني أن تهديه بندقية محشوة وتطلب منه أن يحرس أحلامك ثم تتفاجأ حين يصيبها بطلقاته العشوائية
تفاصيل صغيرة قد تصنع كوارث ضخمة ..فكم من شركة انهارت بسبب موظف لم يدقق في بند صغير بعقد كبير… وكم من علاقة إنسانية دُمرت لأن أحدهم ظن أن الكلمة العابرة لا تهدم جسور الثقة

لا توجد كارثة كبيرة تبدأ بانفجار بل تبدأ بهمسة إهمال صغيرة التاريخ لا يغفر للأغبياء الذين ظنوا أن الأشياء الصغيرة لا تُرى والقانون لا يرحم من تجاهل أن الخطأ الصغير قد يفتح بابا لجريمة كاملة….وفي كل حكاية صعود …هناك ظل خفي لا يراه كثيرون ظل الثقة الممنوحة أكثر مما يجب …والخطأ المغفور له أكثر مما يحتمل ….حين تضع ثقتك الكاملة في شخص يفتقر للأدوات الأساسية للنمو فأنت لا تزرع شجرة بل تغرس قنبلة زمنية تحسبها حياة …..القصة ليست أن تمنح فرصة بل أن تراقب هل تحولت الفرصة إلى إنجاز حقيقي أم إلى استغلال خفي يرتدي قناع الإخلاص

هناك فرق هائل بين أن تبني على أساس …وأن تبني على مجاملة وبين أن تقود…
وأن تدفع آخرين إلى الواجهة بينما هم لا يملكون دراية الطريق فالذي لا يملك عقل المشروع مهما زخرفت حوله قلاعا وهمية سينهار أمام أول ريح صادقة تهب من باب التجربة

في التجارب الكبرى لا تسقط الإمبراطوريات بخيانة كبرى وحدها بل تسقط بأخطاء صغيرة كررتها أياد ظنت أنها أصبحت فوق الحساب في لحظة ضعف يتغاضى القائد عن غلطة بسيطة يغفر تجاوزا هينا يبتسم لتراخ صغير في توقيت حرج ثم يستيقظ ليجد أن كل ما بناه أصبح مرهونا على طاولة العابثين

من يظن أن الخطايا الصغيرة تمر دون عقاب لم يفهم أبدا أن الماء لا يحفر الحجر بقوة الضربة بل بتكرار السقوط هكذا تهدم المشاريع العظيمة ليس بسقوط جدار واحد بل بتصدعات صغيرة لم يتوقف أحد لإصلاحها حتى أصبح الجدار كله هشا كأوراق الخريف

كم من مسؤول كبير أفسد مسيرته لأنه سلم زمام الأمر لمن أسكره وهج المنصب وأعماه عن رؤية حدوده وكم من فكرة واعدة وئدت لأنها تاهت بين أيدي من ظنوا أن الولاء يغني عن الفهم وأن التقارير الزائفة قد تنجي يوم الحساب
في عالم اليوم ليس الغدر هو أكبر الأخطار بل الجهل المغرور والإهمال المبرر والصمت المزخرف بكلمات الولاء أن تصنع رجلا بموقع لا يستحقه فهذه ليست شجاعة ولا رؤية بل كارثة مؤجلة القيادة ليست توزيع مقاعد ولا منح ألقاب القيادة هي أن تضع كل حجر في موضعه الصحيح وأن تمنع أي يد غير مدركة من العبث بأساساتك

لا أحد فوق القانون ولا أحد يستحق أن يعطى صك الأمان لمجرد قربه أو ولائه إن العدالة تبدأ من أصغر التفاصيل والمصيبة تبدأ كذلك حين تغمض عينيك عن خطأ صغير لأن الظروف صعبة ستجد نفسك غدا في مأزق لا يشفع لك فيه لا القرب ولا العذر ولا الماضي الجميل

هناك مدن سقطت لأن بوابة صغيرة تركت بلا حراسة وهناك شركات عملاقة تحطمت لأن حسابا بسيطا أهمل في دفتر رجل لا يجيد العد وهناك تحالفات دولية انفرطت لأن مشاعر صغيرة أسيء فهمها ولم تعالج في وقتها

في السياسة كما في الاقتصاد كما في الحياة لا تستهن أبدا بتفاصيل اليوم الصغير لأنه وحده القادر أن يصنع انهيار غد كبير
لا تخدعك الأضواء ولا الكلمات المنمقة ولا التصفيق الذي يخفي بين طياته مرارة الخذلان اعلم أن كل ابتسامة لا تدعمها كفاءة هي فخ مؤجل وكل إنجاز لا تسانده يقظة حقيقية هو وعد مؤجل بالخسارة

ولتعلم جيدا أن الثقة ليست صك غفران أبدي ولا إعفاء من التدقيق القائد الحقيقي لا يراقب من باب الشك بل من باب الحكمة لأنه يعرف أن الذين يقودون السفن لا يتركون الخريطة للصيادين مهما حسنت نواياهم
في النهاية أنت تختار أن تكون فاروقا صوتك عال خطواتك واسعة ولكنك لا تسد الثغرات الحقيقية أو أن تكون قائدا حقا تعرف أن المجد يصنع بتفاصيله وأن العظمة ليست في توزيع المناصب بل في حفظها من عبث الصغائر

فاروق ولا تسد لأن التاريخ لا يذكر الأصوات العالية بل يخلد أولئك الذين فهموا أن بناء السفينة يحتاج أكثر من أشرعة جميلة يحتاج قبطانا لا ينام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى