سيناء لا تُنسى … حين تنتصر الأرض للدم

بقلم علياء الهوارى
في مثل هذا اليوم، منذ أكثر من أربعة عقود، لم يكن 25 أبريل مجرد موعد في رزنامة المصريين، بل لحظة وعي وكرامة، ومشهد عودة الروح إلى جسد الوطن، حين رُفع العلم المصري خفاقًا على أرض سيناء بعد احتلال دام أكثر من 15 عامًا، بين مرارة النكسة وعزة النصر.
عيد تحرير سيناء هو تتويج لمسيرة نضال ممتدة، خاضتها مصر بكل السبل: من متاريس القتال، إلى طاولات التفاوض، من دماء الشهداء على رمال القناة، إلى دبلوماسية الصبر الطويل. لم تكن حربًا فقط، بل اختبارًا لقوة الإرادة الوطنية، التي لا تُكسر ولا تتنازل
لم تكن هزيمة يونيو 1967 مجرد خسارة أرض، بل كانت لحظة كاشفة وصادمة هزّت وجدان كل مصري وعربي، حين سقطت سيناء تحت الاحتلال الإسرائيلي في ساعات قليلة. لكن ما لم يحسبه العدو أن مصر، التي انحنت للحظة، لن تسقط أبدًا، وأنها ستعود أقوى مما كانت، بوحدة شعبها وصلابة جيشها، وإرادة لا تُكسر.
في تلك الأيام القاسية، لم تبكِ مصر على أطلال الهزيمة، بل بدأت في صمت، وبعزم فولاذي، إعادة بناء جيشها من الصفر، في أكبر عملية إعادة هيكلة وتسليح وتدريب عرفها الشرق الأوسط.
وبينما كان العدو يحتفل بـ”الانتصار الخاطف”، كانت مصر تخطط للعودة… عودة لا مكان فيها للصدفة، بل قائمة على العلم والاستعداد والتضحية.
كانت القيادة المصرية، بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر ثم أنور السادات، تدرك أن المعركة المقبلة لن تكون فقط عسكرية، بل شاملة: معركة على الأرض، وفي الهواء، وفي الإعلام، وفي الوعي.
فبدأت مصر في خوض حرب الاستنزاف (1968-1970)، كتمهيد نفسي وعسكري لإعادة الثقة للجنود والشعب، وتوصيل رسالة واضحة للعدو: “لسنا منهزمين… بل نستعد.”
ثم جاءت اللحظة الفارقة في السادس من أكتوبر 1973، حين دوّى صوت “الله أكبر” في سماء القناة، واجتاز جنود مصر الساتر الترابي الأشهر في العالم، خط بارليف، ليبدأوا واحدة من أعظم المعارك في التاريخ الحديث.
لم يكن العبور مجرد تحطيم لخط دفاعي، بل تحطيم لصورة الهزيمة التي ظلّ الغرب يروّج لها طويلاً، وتحقيق لمعجزة عسكرية قلبت موازين القوى.
الجيش المصري لم يكن وحده في هذه الملحمة، بل كان خلفه شعب متحد، ومؤسسات تعمل كخلايا نحل، من الإعلام الذي بث روح الصمود، إلى الدعم الشعبي الذي لم ينقطع، والمخابرات العامة التي أدارت معركة ما قبل الحرب بدهاء، زودت القيادة بكل ما يلزم لتكون ضربة العبور حاسمة.
أما على الصعيد السياسي، فقد أظهرت مصر براعة لا تقل عن المعركة العسكرية، حين انتقلت من مرحلة القتال إلى مائدة المفاوضات، دون أن تتنازل عن مبدأ واحد.
وقادت عبر اتفاقيات فك الاشتباك، ثم مباحثات كامب ديفيد، عملية دبلوماسية معقدة استردت بها الأرض دون رصاصة، محافظة على الكرامة الوطنية، ومتحدية كل الضغوط الخارجية.
وهكذا، أثبتت مصر للعالم أنها ليست فقط دولة ذات جيش قوي، بل دولة صاحبة قرار مستقل، ورؤية استراتيجية، وقدرة على إدارة ملفات الحرب والسلام بحكمة وحنكة.
إن قصة مصر من الهزيمة إلى النصر ليست رواية عسكرية فحسب، بل ملحمة إنسانية، شارك فيها الجميع: الجندي، والعامل، والمزارع، والمهندس، والمعلم، والكاتب، والطفل الذي جمع التبرعات من مصروفه.
ملحمة تؤكد أن مصر، حين تسقط، تنهض أسرع؛ وحين يُنتقص من أرضها، تُقاتل بكل ما تملك. لأن هذه البلاد ببساطة… لا تعرف الانكسار.
تحرير الأرض لا يُكتب فقط بالمداد على الخرائط، بل يُخطّ بدماء الشهداء. وسيناء، التي ارتفع عليها علم مصر في 25 أبريل 1982، لم تكن يومًا أرضًا مستردة فحسب، بل أرضًا مُفتداة بالروح، تدفع كل يوم ثمن سيادتها من دماء خيرة أبنائها.
فبعد رحيل المحتل، لم تخلُ سيناء من معركة أخرى… لكنها هذه المرة كانت أشرس، أخطر، وأكثر خسة. إنها معركة ضد الإرهاب، الذي حاول التسلل عبر الجغرافيا، مستغلًا الفراغ الأمني، والمواقع المعزولة، وأحلام الفوضى.
لكن مصر لم تتراجع، ولم تساوم. خاضت الحرب بكل أدواتها: جيش لا ينام، وشرطة يقظة، واستخبارات ترصد كل حركة، وشعب يدفع الثمن دون أن ينهار.
كل نقطة دم سالت على أرض سيناء كانت بمثابة توقيع جديد على عقد السيادة، وتأكيد أن هذه الأرض لا تُترك، ولا تُباع، ولا تُهدى… بل تُحمى.
من الشيخ زويد إلى رفح، ومن العريش إلى جبل الحلال، ارتقى الشهداء واحدًا تلو الآخر، في مشهد لا يُشبه إلا أسطورة.
جنود سقطوا دفاعًا عن نقطة تفتيش، وضباط واجهوا الموت بصدورهم، ومدنيون دفعوا حياتهم ثمنًا للصمود في بيوتهم.
ورغم الألم، ظل الصوت واحدًا: لن تُهزم مصر على أرض حررها شهداؤها.
هذه المعركة المستمرة في سيناء هي الدليل الأوضح على أن الأمن لا يتحقق بغياب الخطر، بل بالقدرة الدائمة على مواجهته.
هي تأكيد على أن التحرير لا يُكمل معناه إلا حين تمتزج التنمية بالحماية، والحياة بالكرامة، والسيادة بالتضحية
تحرير سيناء لم يكن نهاية الحكاية، بل كان بداية فصل جديد من التحدي… تحدي التنمية.
فالأرض التي استُعيدت بالسلاح والدبلوماسية، كانت بحاجة إلى من يُعيد لها نبض الحياة، إلى من يزرع فيها الأمل، ويحولها من ساحة معركة إلى واحة تنمية وازدهار.
ولأن مصر لا ترى التحرير مجرد رفع علم، بل غرس جذور، انطلقت الدولة في أكبر خطة لإعمار سيناء وربطها بقلب الوطن.
فلم تعد سيناء ذلك الامتداد المنسي شرق القناة، بل تحولت إلى محور استراتيجي في معادلة التنمية الوطنية، بسلسلة مشروعات عملاقة تُغيّر وجه الأرض وتُعيد رسم الخريطة الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة.
أنفاق عملاقة تربط ضفتي القناة، مشروعات زراعية تحوّل الرمال إلى واحات إنتاج، مناطق صناعية متكاملة، مدن ذكية، ومجتمعات عمرانية جديدة تستوعب آلاف الأسر وتخلق حياة متكاملة للمواطن السيناوي.
والأهم من ذلك، هو الاستثمار في الإنسان. فقد أنشئت الجامعات والمدارس، وتم تمكين الشباب السيناوي، وتوفير فرص العمل، وتأهيل الكوادر المحلية لقيادة مستقبل المنطقة.
لأن سيناء لن تكون قوية إلا بأبنائها، ولن تُحمى إلا بأهلها، وهذا هو الرهان الحقيقي الذي تخوضه مصر: أن تربط التنمية بالأمن، والانتماء بالفرصة، والسيادة بالحياة.
في كل عام، حين يحل يوم الخامس والعشرين من أبريل، لا نفتح فقط صفحات الذكرى، بل نُعيد قراءة أعظم رسائل الصمود، والانتماء، والثمن الحقيقي للحرية.
25 أبريل لم يكن مجرد تاريخ لعودة أرض، بل موعد مع الكبرياء المصري، حين وقف الوطن على قدميه بعد انكسار، وخاض حروبه بجسارة، ثم انتصر بإرادته وعقله وصبره، حتى عاد العلم ليرفرف على كل ذرة تراب في سيناء.
هي ليست مناسبة احتفالية فقط، بل تذكير سنوي بأن السيادة لا تُوهب، بل تُنتزع، وأن الوطن لا يُصان بالشعارات، بل بالدم والعمل والإخلاص.
هذا اليوم يعلّم الأجيال أن كل شبر تحرر كان وراءه آلاف من الجنود والضباط والمواطنين الذين وهبوا حياتهم من أجل أن تبقى مصر، كما عرفوها: حرة، أبية، عصية على الانكسار.
إنها رسالة إلى كل مصري بأن ما نملكه اليوم من أمن واستقرار، لم يأتِ بسهولة، بل هو نتاج سنوات من الكفاح، والتضحيات، والمواقف الشجاعة.
ورسالة إلى كل من يظن أن الأوطان تُبنى في لحظة، أن الوطن الحقيقي يُصنع عبر أجيال تؤمن بقضيته وتدفع ثمنها بالكامل.
وفي زمن تتبدل فيه الولاءات، وتُباع فيه الأوطان بثمن بخس، يبقى 25 أبريل شاهدًا على أن هناك شعوبًا لا تنسى دماءها، ولا تتخلى عن أرضها، ولا تفرّط في تاريخها.
إن يوم 25 أبريل ليس مجرد يوم في التقويم، بل هو تجسيد للإرادة المصرية التي لا تنكسر، وللثمن الغالي الذي دفعه الشعب والجيش ليظل الوطن آمنًا ومستقلًا. هو يوم يُثبت لنا جميعًا أن المعركة من أجل الكرامة والسيادة لا تنتهي بخروج المحتل، بل تبدأ بتعمير الأرض، وحماية الهوية، وبناء المستقبل.
ولأن سيناء ليست مجرد جزء من الخريطة، بل هي الروح التي تتنفس في قلب مصر، فإن يوم تحريرها يبقى ذكرى حية في وجدان كل مصري، رسالة واضحة أن الوطن لا يُباع، ولا يُفرط فيه مهما كانت التحديات.
وفي كل مرة نحتفل فيها بهذا اليوم، نُجدّد العهد بأن هذه الأرض كانت وستظل محفوظة بدماء الشهداء، وبإصرار الشعب على أن يسير نحو المستقبل بكل عزيمة، يواجه كل التحديات ويحقق كل الطموحات.
إن 25 أبريل هو أكثر من ذكرى… هو رمزٌ دائمٌ للحرية، وللشجاعة، وللوطن الذي لا ينكسر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى