لواء دكتور/ سمير فرج يكتب: تكبيرات العيد

ستظل تكبيرات العيد أهم، وأعذب، الطقوس التي تشعرك ببهجة قدومه، ليس، فقط، لما تحييه من مشاعر روحانية، وإنما، كذلك، بما تستدعيه من ذكريات إنسانية. فبالنسبة لي ارتبطت تكبيرات الأعياد، بأربعة محطات في حياتي، لا زالت محفورة في وجداني.
كانت المحطة الأولى في طفولتي التي قضيتها بمدينتي الحبيبة بورسعيد، حيث كنا نرتب ونجهزملابس العيد الجديدة في الليلة السابقة، لنكون مستعدين للانطلاق مع والدي، رحمة الله عليه، في الصباح لجامع لطفي، المجاور لمنزلنا، لنردد التكبيرات، حتى موعد الصلاة، وما أن نفرغ منها، كنا نخرج إلى ساحة الجامع حيث نجد الأهالي يوزعون كؤوس الشربات، مع قطع الكحك وهي عادة جميلة حافظ عليها أهل بورسعيد. بعدها، يتجه البعض إلى المقابر لزيارة من تركونا من الأهل والأحباب، قبل أن نجتمع مع الأعمام والأقارب.
أما المحطة الثانية، فكانت تكبيرات العيد وأنا على قمة أحد جبال اليمن، مع جنودي، المشاركين في حرب اليمن، نردد ونستمع إلى تكبيرات العيد، القادمة من القاهرة، من خلال راديو صغير اشتريته هناك، ثم نصلي معاً. والحقيقة أنني لم أشعر في أي من الأعياد التي مرت علي هناك، بما كنت أشعر به من بهجة في بورسعيد، فكنت أغمض عيني لأتذكر تكبيرات العيد هناك، بكل تفاصيلها الجميلة.
أما ثالث المحطات فكانت لما تركت اليمن وعدت إلى مصر، للمشاركة في حرب ٦٧، التي مُني فيها الجيش المصري بهزيمة كبيرة، وفقدنا أرض سيناء الغالية، وبدأنا، على الفور، في الاستعداد لتحرير هذا الجزء الغالي من تراب مصر، مما اقتضى التدريب على عبور قناة السويس، وهو تم محاكاته على نهر النيل، في مناطق الدلتا، وصادفت التدريبات يوم وقفة العيد، وكنا على ضفاف أحد فروع نهر النيل نجهز القوارب المطاطية لعبور النهر، وندرب الجنود على استخدام سترات النجاة. كان كل فرد يتعرف على موقعه على القارب، الرشاش في مقدمته، الجنود على جانبيه، وأنا في عند مؤخرة القارب، ثم بدأنا في تلطيخ وجوهنا بالطين كنوع من أنواع التمويه، كل ذلك في يوم وقفة العيد. وسرعان ما قارنت بين طقوس ليلة العيد في طفولتي، وبين ما أفعله اليوم وأنا ضابط مصري، أتدرب ومعي جنودي على تحرير أرض الوطن.
ومع بزوغ أول ضوء من صباح اليوم التالي، اندفعنا بالقوارب نحو المياه، لعبور ضفة النهر المقابلة، وكأنها الضفة الشرقية، لنقتحم خط بارليف، وأنا أحمل في جيبي ذات الراديو الصغير، الذي اشتريته في اليمن أثناء مشاركتي في حربها فور تخرجي من الكلية الحربية. حملته لأسمع تكبيرات العيد، التي أعشقها منذ الطفولة. واليوم، تخليت عن كل ما اعتدت عليه وأنا صغير؛ فاستبدلت ملابس العيد الجديدة بسترة النجاة، واستبدلت نزهات العيد بالتدريب على قارب صغير، وبدلاً من حمام العيد، لطخت وجهي بالطين. لم يهمني أيٌّ مما تخليت عنه، بل تخليت عنه وأنا في قمة فخري وعِزِّي بواجبي المقدس لتحرير الوطن، ولكنني لم أتخلَّ عن تكبيرات العيد، وسمعت أول تكبيرة، “الله أكبر كبيراً”، في نفس اللحظة التي كنا نهاجم فيها نموذج خط بارليف المجهز للتدريبات على ضفة النهر، وأنا أنادي في جنودي، “اهجم للأمام!”، لنقتحم خندق العدو ونواصل التقدم.
وبينما النيل من حولي، والراديو لا يزال في جيبي، اسمع فيه تكبيرات العيد، وآمر جنودي بالرقود أرضاً استعداداً لصد هجوم “القوات المعادية”، التفتُّ، فرأيت الفريق محمد فوزي، وزير الحربية آنذاك، يركب سيارته الروسية الصنع، وبجانبه أحد الخبراء الروس، لتفقد موقع التدريبات وكيفية عبورنا المانع المائي، ثم مر علينا، ومعه قائد الكتيبة، وسمع الفريق فوزي صوت تكبيرات العيد من الراديو، فقال لنا، “عيدنا الحقيقي هو يوم تحرير الأرض، عندما نصلي العيد فوق رمال سيناء، أما الأعياد الحالية، فسنتدرب خلالها حتى نحقق النصر”. غادر الفريق فوزي، الذي كان له الفضل في إعداد الجيش المصري لعملية العبور، وغادر القادة الموقع، بينما كنت ما زلت راقداً على الأرض، وما زالت تكبيرات العيد تنطلق من الراديو الصغير في جيبي، ولا يشغل تفكيري سوى أرض سيناء، ومتى سنحررها
ودارت الأيام، وحانت المحطة الرابعة، عندما بدأنا الهجوم في السادس في أكتوبر من عام ١٩٧٣، الموافق العاشر من رمضان، وكنت حينها في غرفة العمليات، مركز قيادة العمليات الهجومية. ولما حلَّ العيد، كنا لازلنا في مركز القيادة، تحت الأرض، إلا أننا استخدمنا مكبرات الصوت فيه لإذاعة تكبيرات العيد، بينما اصطف القادة والضباط في الممرات لترديد التكبيرات، ثم الصلاة في أحد غرف المركز، في مشهد لم ينساه أحد ممن حضروه.
والحقيقة أن ذلك اليوم، وتلك التكبيرات، كانت الأجمل في حياتي، فرغم أننا لم نرتدِ ملابس العيد الجديدة، ولم نأكل الحلوى والكحك بعد الصلاة، ولم نجتمع مع الأبناء والأهل والأحباب، إلا أن فرحتنا في ذلك العيد، لم تضاهيها أي فرحة من قبل. كان عيدنا الحقيقي هو وجود نصف مليون جندي مصري يرفعون تلك التكبيرات فوق رمال سيناء العزيزة، ومنهم من أصر على أن تكون الصلاة فوق أطلال خط بارليف، فكان العيد عيدين؛ عيد الفطر المبارك، وعيد استعادة الأرض، ورفع العلم، مرة أخرى، على أراضي سيناء، وصدقت نبوءة الفريق أول محمد فوزي، حين قال إن صلاة العيد الحقيقية ستكون فوق رمال سيناء.
Email: [email protected]