د. سمر يسري تكتب: كبسولة أوميجا 3

لايعرف بعض الفلاسفة كيف بدأت العجلة مثل (فيتجنشتاين وهيجل)، ولايعرف آخرون كيف ستنتهى مثل (شيلينج)،وفى التجارب الصوفية الإبداعية الجنونية يحدثنا منظور ايكاروسالذى غرق فى المحيط بعد أن اقترب من الشمس ، أن أولئك الهاربين من العالم العادى اليومى إلى النشوة الجنونية والصاعدين إلى جنون الإستنارة والتصوف قد يصابون فى النهاية بالارتباك الفلسفى أو الهوس الدينى ، حيث تتزعزع النشوة الأولية لتجمد الدفق الصوفى وتصبح جزء من المقدسات والإعتناقات، وقد تميل أحيانا إلى الإنحراف أو التلاشى، أو قد تعزى ببساطة إلى أوهام يومية ، فمثلاً لدينا جنون العظمة فى المحتوى والشكل النصى.

 وهنا يأخذنا الحديث عن مجانين الإبداع ذوى الخطط وهم القادرين على تنفيذ الخطط الجنونية فى مواقف خارجة عن المألوف بالفعل وليس الاعتناق فقط، فمثلا الإبداع والجنون اللغوى لدى المبدعين مثل عبارة امرؤ من جزيرة كريت نفسها كل الكريتين كاذبون، تكمن المفارقة فى أن حقيقة العبارة لايمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة ، ولن يكون جميع سكان كريت كاذبون،ولكن عندها سيكون صاحب العبارة مصيبا فى قوله.

وهنا لابد أن نكون سجناء التناقض اللغوى والاستمرار فى استنتاج الصواب من الخطأ أو الخطأ من الصواب، مثل الثعبان الذى يبتلع ذيله دون توقف، وفى الواقع تحتوى جميع العبارات التى تحتوى الضمير أناعلى هذا التناقض، مثل قد أوجدأو لا أعرف بالضبط ، كذلك هناك نوع آخر من الإبداعية وهو جنونية المكان والزمان، ففى قصة الفيلسوف اليونانى زينو (بالقرن الخامس قبل الميلاد) يخوض أخيل السريع سباقا مع سلحفاة تمنح السبق فى البدء أولاً، فالعقل المحدود يرى أن الواقع والأصح أن يتغلب أخيل فى السباق على السلحفاة بسهولة ، ولكن فى كل مرة يطمئن للفوز تقطع هى اشواطاً كثيرة ، وتكون النتيجة خارج استنتاج العقل المحدود، أما الدهشة والمفارقة فنجدهما بشكل طبيعى فى الحياة اليومية ، فقد يتعلق الأمر بمشاكل فى التواصل والعلاقات الشخصية ومفاهيم الخير والشر وغيرها، وقد أطلق شيلينج على هذا التناقض فى الأفكار اسم ينبوع الحياة الأبديةوالذى تنبع منه جميع الأحداث والأفعال الطبيعية ، المليئة بالمشاكل والغارقة فى الكد والسعى غرقا، لكن ذلك لايتعب الحياة ولايرهقها – فلو سيطرت قوة واحدة فقط لعم الهدوء والسلام، ولن يكون لديها دافع يحركها، وستغرق كل مظاهرها فى صفة الخمول!

ولأجل فهم هذه المسألة يستعين شيلنج باستعارات الحركة الأفلطونية فيقول ليس هناك سوى عجلة تواصل سيرها فى حركة دورانية لاتتوقف أبدا، وهو مايسمى بالنمطية أو التكرار فتفقد بذلك التمايز أو الاختلاف، حيث تواصل حركتها فى البدء إلى الأبد .

وهنا يحضرنى كلمات العبقرية فيروز (صارلى شى 100 سنة مشلوحة بهالدكان)، فلا يعرف بعض الفلاسفة كيف بدأت العجلة ولايعرف آخرون كيف ستنتهى، ومن هنا تكتسب احاديث شيلينج عن الرؤى وحدس الأنبياء والعرافين قيمة مختلفة، حيث يدرك الانسان الفرق بين دوامة التفكير ودوافعه الطبيعية وبين النعيم الروحى الذى يمنحه اياه الرب، فهو المخلوق الوحيد الذى يمكنه الإرتقاء بنفسه إلى هذا المستوى من الإزدواجية، فتتحول صورة المجنون من انسان يثرثر إلى انسان يواجه مهمة صعبة للغاية فى تحليل هذه المفارقة واستيعابها، ومن الجنون أن يعتقد أحدهم أن الشمس تتحرك معه عندما يتحرك، ولكن الاصح أن الشمس هى من تتبع حركة المرء.

وهكذا كلما ادرك المفكر خارج حدود الواقع أن جهوده فى الفهم تتماثل مع جهود الأنبياء والفلاسفة ،كلما ازدادت الاختراعات البشرية ، ورغم أن الجميع يعيش ضمن أوهام وتخيلات واحلام وشعارات لغوية ورموز وتفاهات عديدة، مثل الغرق فى جنون الارتياب أو جنون العظمة فى أنه قادر على التأثير على الطقس أو الظواهر الطبيعية وتطويع الأرض وتغيير مصائر البشر دون موافقتهم ،

وقد يبدو هذا مغريا، أن يعيش المرء الحياة معتبرا نفسه القادر فيها متناسيا التدخل الإلهى المباشر عند العبث بالكون ، وهذا لايعنى ان نستسلم للظواهر الكونية ولكن بمعرفة حدودنا البشرية ، فالزمان الطبيعى أو الزمان الكونى وهو الزمن المرن الذى لايضيع فيه شىء ان سرعناه، فلا تكون سجين أفكارك ولا تتصرف بعنجهية كونية.

ورغم ذلك فى عالمنا الطبيعىثمة أشاء مقدسة على أنها مسلمات ومعطيات لاجدال فيها، ومحرمات لايمكن الحديث عنها وأحكام قيمية أساسية ، وقد تظهر الأديان أكبر قدر فى ذلك،ومع ذلك لايمنع ذلك العقل التحليلى من محاولة التفسير والاثبات ، وقد شاعت العديد من المفاهيم حول المقدس فى عالم ماقبل الحداثة ، والذى يلتقى فيه الخير والشر فى صراع أبدى ، ويضيف لانديساما هذا الانتقال من التفكير العقلانى شبه المنظم إلى الخيالى يحمل بعدا عجيبا من القداسة ، ففى عالمى السحرى الذى يشبه أليس فى بلاد العجائب يحمل هاتفى النوكيا صفة القداسة ، إلى جانب إجراء المكالمات وإرسال الرسائل النصية ، فقد تبين له أن الأرقام الموجودة على الهواتف المحمولة ليست مخصصة فقط لإجراء المكالمات بل قد تحدث جميع الأنواع التأثيرية عن بعد ، وتجاوزت الأصوات فى كلمة نوكيا حدود الكلمة وراحت تسعى للاتصال مع كينيا وكوريا الشمالية

 وهكذا تكشف الرموز الدينية المرتبطة بالحياة عن حياة أعمق وأكثر غموضاً ، فهى نابعة من كون ينظمه اله واحد وكأنه عمل منظم خارق للطبيعة ومهما كان عبث الإنسان يقف فعله عند حدود الفهم والتفسير ومحاولة فك شفرته وأكواده محاولا الوصول إلى عالم سعيد مبهج من اليوتوبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى